الهديل

شيخة غانم الكبيسي: رفاهية تقبل الآخر

شيخة غانم الكبيسي

رفاهية تقبل الآخر

شقت طريقها بين الحشد، تبحث عمن يرشدها للباب الخارجي، فلاحظت احداهن ترمقها وقد علت على وجهها ابتسامة صفراء، لم تُميزها لارتباكها، توجهت إليها ولكن مع اقترابها شعرت بعدم الارتياح فتخطتها لتبحث عن شخص آخر، عساه يتقبل وجودها الانساني ويتفهم حاجتها للمساعدة، ولكنها لحظة مرورها بها لمحت ابتسامتها الساخرة، وانتبهت لابتعادها خطوتين بهدف تحاشيها، فتجاهلتها بدورها مُكملة طريقها غير مكترثة، إلا أنها توقفت بعد ان سمعت ضحكاتها ممزوجة بكلمات الاستهزاء والسخرية لذوقها الرديء باختيار الملابس، أدركت حينها فحوى النظرات التي كانت تلاحقها، لتعود ادراجها مُتجهمة ومتسائلة بارتياب عن سبب هذا التصرف العنصري، الذي ينم عن جهالة تستدعي قذفها بجمرات المواعظ الحارقة كي تُذكرها بما لا تتحلى به من مبادئ الاخلاق، مُفسرة باقتضاب بأن ما ترتديه يُعتبر في بلادها من أجود أنواع الاقمشة وأفضل الأذواق، لتنهي كلماتها بنعتها بالسواد المُتخلف وهي تشوح بوجهها مختفية بين الحشود، تاركة خلفها حطاما يتمنى ان تبتلعه الأرض ليواري سوءاته.

قد يرى بعضكم انه موقف فردي عابر وسوء فهم وارد، متجاهلاً أسبابه وأصوله وكذلك مُخلفاته الجسيمة ليس فقط على مستوى الأفراد بل على المجتمعات البشرية، بيد ان الشخص الواعي سيرى ابعد من ذلك بكثير، مستوضحاً الصورة الكبرى بكل مصادرها البيئية ومؤثراتها الثقافية ودوافعها الشخصية وانعكاساتها التاريخية التي اثمرت استهجاناً غير مبرر لدى البعض لكل ما هو مُخالف.

لا ننكر بأن جميعنا فريدون، سواء في رؤيتنا أو مشاعرنا وخبراتنا، نتميز بخصائصنا الشخصية التي نتبادلها مع الآخرين لجعل حياتنا مثيرة للاهتمام، نتناقل الأفكار لإثراء علاقاتنا وتوسعة مداركنا، نطلق أحياناً الاحكام ونخشى التغيير ونعشق الواقع الآمن الذي ألفناه، منشغلين بتفاصيلنا اليومية، منغمسين في عاداتنا، ليغدو كل ما لا يشبهنا شاذا، وكل ما لا يلائمنا ويتماشى مع افكارنا وقيمنا باطلا، حتى بتنا نرى ان الآخر المُختلف القادم من ثقافة أخرى مُخطئ دائماً، ليبلغ بعضنا العدوانية لمجرد أنه لا يملك رفاهية التفكير بالأخر واختلافاته التي قد يرانا هو الآخر بها.

بالتأكيد لم ولن نبلغ الكمال، فلكلٌ منا نواقص يسعى لتغييرها والتغلب عليها، ويطالب الآخرين بتقبلها والتعايش معها، وحتمية هذه القناعة ان تكون تبادلية، لذا فمن الأجدر ان نُطبقها على الآخرين ونتقبل نواقصهم واختلافاتهم التي يتحتم علينا احترامها والتعايش معها، فما نراه ناقصا قد يظنه البعض كاملا وما نعتقده مُكتملاً بالتأكيد هناك من يعتبره منقوصاً، فالموازين تختلف والأفكار تتضارب، والقيم تتفاوت، لسنا نسخا متطابقة.

نعم، نحن مختلفون بمظهرنا الخارجي ولكن نتشابه بمكوناتنا الجسدية، مُتباينون بمعتقداتنا الدينية والدنيوية ولكن نتلاقى بأرواحنا السماوية، قيمنا ومبادئنا مُتعارضة إلا أننا نتشارك الإنسانية.

هذا التشابه الجوهري الفطريّ يدعونا لاحترام جميع الثقافات والمعتقدات والقيم التي تخالفنا، لنواجه الاخرين بالاحترام الذي نتوقعه لأنفسنا، بإحلال التقبل بدل الخوف من الاختلافات التي لن تؤثر بنا ما دمنا نؤمن يقيناً بقناعاتنا، لنفسح المجال للتعرف على الآخر وتجنب إصدار الأحكام على المظهر أو العادات والقيم، فإن منحنا أنفسنا وقتاً أطول للتعرف على شخص ما سنكتشف غالباً أوجه التشابه بيننا أكثر مما يبدو على السطح.

انها رفاهية الفكر المتقبل لكل جديد، يبحث عن المختلف الذي يطور من ذاته ويُقيم اعوجاجه، منفتح لمعرفة الأضداد التي تُعمق قناعاته، مستكشفاً التفسيرات لتساؤلاته، ليستشف مواطن الضعف المتعارضة فيقلصها، ويُنمي نقاط القوة المشتركة للوقوف على الحلول الوسطى لرأب الفجوات الفكرية بين الشعوب.

عوضاً عن الاستياء الذي نبديه تخوفاً تجاه أشخاص لم نسع لمعرفة كيفية التواصل معهم خشية تهديد خصوصيتنا ومعتقداتنا بالانهيار.

فلا يعني بالضرورة قبولك بالآخر المختلف انصهارك فيه، ولن ينتج عن استماعك لوجهات النظر المُخالفة خطراً يعترض أفكارك ويُفندها، فلكل شخص الحق بالتمسك بمبادئه وركائزه دون فرضها على الآخر بالتعصب والرفض والتسفيه لثقافات وقيم وآراء الآخرين، فكلما ساد الحوار وتقاربت وجهات النظر، ارتفعت نسبة الانسجام والتناغم الذي يؤدي للتعايش والسلام بين المجتمعات.

تذكر أن الطبيعة البشرية مجبولة على الاختلاف لتتعارف فيما بينها، فالبشر خُلقوا شعوبا وقبائل مختلفة العادات والمعتقدات ليتبادلوا المعرفة، لذا فكلما أدركنا حجم تنوع الناس وتعدد الثقافات الكونية والقيم المتشعبة التي يؤمن أصحابها بها، ندرك مدى أهمية التعرف عليها والغوص بمكنوناتها.

Exit mobile version