تقلصت الحكايات واندثرت الأقاويل واضمحلت الدسائس، فتصافت القلوب بعد ان شاع الوئام البشري وساد السلام الروحي، لتغدو الثقة عنوان المعاملات الانسانية والرحمة منابعها، كما ان الستر أضحى غطاءنا واحترام الخصوصيات شعارنا، لم تعد تستهوينا نواقص الغير ولا تجتذبنا مشاكلهم لنخوض بها مع الخائضين، فإن لم يرغبوا هم بالإفصاح عنها وإشراكنا فإننا لا نملك حق العلم بها، كما اننا مقتنعون بأن تلهفنا لمعرفة أدق أحداث الناس ليس مجدياً، وبأن تفاصيلهم الخاصة ليست إضافة، بل هي شأن غير مباح وحديث غير مُحبب، وإن علمنا شيئاً منه فعلينا حفظه من الألسنة والحيلولة دون التشهير والتهويل، متجاوزين الوقائع المعلنة، مستعيضين عنها بالمرغمات الخفية والدوافع الفرعية، لتتحد دعواتنا باليسر والصلاح، وتعم نوايا الخير والفلاح، فلا ننطق إلا بالصدق ولا نتقبل إلا الحسن.
فليس للمتربصين مكان بيننا، بعد ان أيقن الجميع بأن ما يتناقلونه اليوم عن الآخرين سيتم تناقله قريباً عنهم، وما يتبجحون بإفشائه سيعود عليهم بالعار وآثام النميمة البغيضة، وما يصفون به الآخرنن سينعتونهم به لا محالة، كما إن اكتفاءنا بذواتنا وتركيزنا على حياتنا أضحى من أولى الاهتمامات وأهم القواعد التي نرتكز عليها في التعايش المجتمعي والترابط الأسري.
أليس هذا المجتمع الذي نطمح إليه جميعاً لنرتقي بشرياً، انه الحلم الذي نتشاركه دون تفعيل، والهدف الذي نصبو إليه دون سعي أو مجاهدة للنفس الأمارة، غافلين عن معتقداتنا الدينية للحظات، متجاهلين قيمنا الدنيوية، متناسين واقعنا المليء بالتناقضات، لنرتدي ثوب الكمال المهترئ، قابضين على مطرقة العدالة المغلوطة والاضطهاد المفتعل لإطلاق الأحكام التي تحطم القلوب وتفسد العلاقات وتزعزع الثقة بين الأفراد، لتتراكم الضحايا الثلاثية؛ الناطق بالحكم والسامع له والغائب صاحب الحدث، الذي طاله الحكم الغيابي.
للأسف؛ ما زالت هناك فئة كبيرة تتراشق بألسنتها السليطة كسباً لرضا أو قبول مجتمعي أو منعاً للإقصاء، سالكة مسار استنقاص الآخر الذي قد يظهر كمال أنفسهم ورفعتها، ظناً انهم بهذا الاستصغار سيعيقون تقدمهم، لكون لا يقذف إلا الشجر المثمر، ولا يرشق إلا الطائر الرفراف، فبزوغ الفجر سيفضح سوادهم ويكشف تجاعيدهم الدقيقة التي يتجملون في درئها كيلا يكونوا من الخلائف.
نعم إنها من أسوأ العادات المجتمعية، والأمراض التي تفشت عبر العصور، ينميها الفضول ويذكيها الحسد والسخرية، لمعرفة وسماع المواقف والأحداث التي يتعرض لها الآخرون بغض النظر عن صحتها أو حجم إساءتها، قد يعتبرها البعض ثرثرة مفيدة لتوطيد العلاقات وتقريب وجهات النظر أو اكتشاف بؤر الاختلاف وفضح المكنونات النفسية، وقد تكون كذلك إن لم نزيف الحقائق ونذكر الآخرين بسوء ونصدر الأحكام، وإلا فإنها غيبة بينة تدل على دناءة صاحبها وخسته.
لعلك مدرك ان هناك اتفاقا مسبقا بعدم كماليتك، لذا فإن توسطك لأي تجمع إنساني لا يعطيك الحق في استباحة حياة الآخرين أو هتك خصوصياتهم وتتبع زلاتهم والتباهي ببلوغك تفاصيل الأمور أو معرفتك بخبايا الحدث قبل الآخرين، فهذا التصرف يعتبر من أسوأ السلوكيات الإنسانية على الاطلاق لما يترتب عليه من ضرر نفسي ومجتمعي.
أغلبنا استمع للشائعات يوماً ما، ان لم يكن قارب على تصديقها أو نقلها، كما ان العديد منا يذكر موقفاً أو أكثر يستصرخ فيه من لم ينشغل بإصلاح عيوبه التي يخشى من الاعتراف بوجودها، بل عمل على تفاقمها بأن أشغل وآثار الآخرين ليشاركوه ويناصروه بهذا الانشغال، ليشكل معهم بوقاً ومنبراً هجومياً يتلهون فيه من فراغهم الخانق وانكسارهم الفاضح، يتناقلون لحوم البشر بألسنتهم، متعطشين لنزيف مرتقب يتمخض عن صرير أنيابهم، فمن ينضم لقطيع الضباع يخشى الخروج منه أو مخالفته، لأنه يعلم جيداً بمدى وحشية هجومهم واستماتتهم في تشويه معالم من يتكاتفوا عليه، لوسمه بالعار الذي يحتويهم، ثم ينتقلون لفريسة أخرى، لعل لحمها لا يكون عرداً كسابقتها، فيتلذذون به محققين انتصارهم الوهمي إرضاءً لأرواحهم العليلة، مُكبلين بضغط المعارك، ليتضاعف تقيح جراحهم وتتسع ندوبها.
لذا لا تكن مع القطيع، مُستعبداً لأفكارهم، مفتعلاً لمعاركهم الخاسرة، ألجم فضولك كيلا يستغله الطرف الآخر للتمادي في ممارسة سلوكه، فتكن نواة لهذه الآفة المجتمعية، ومحوراً لدوائرها، تدبر ما حولك، وما يبلغ مسمعك، ليكون ميزان تعاملاتك معياره المعتقدات الدينية والدنيوية والقيم الإنسانية والوشائج الاجتماعية ومجتمعك المتحضر الواعي.