تتباين معاييرنا الموروثة وقيمنا المكتسبة، فمعتقداتنا سطحية وتجاربنا غير متشابهة وخبراتنا متفاوتة، رغم تواجدنا بمحيط جغرافي واحد إلا أن بيئاتنا الصغيرة مختلفة في عمق الأثر والتأثير، مما أنتج خليطا من الأفكار المتضاربة والآراء المتعارضة التي تتنافس وتتصارع ليس فقط لإثبات صحة فكرتها، بل للإطاحة والتقليل من أفكار الآخرين – فكل قول يُخالف أقوالهم يستحق الرجم، وكل فكرة تُعارض أفكارهم جزاؤها النحر بعد التمثيل-، هذا ما أفرزته المُحصلة النهائية للأفكار المزروعة منذ الطفولة والتي تبلورت لتخلق معتقدات راسخة يصعب تغييرها.
أتفهم أنها تساؤلات يفترضها الواقع، واستعداداتنا الفطرية تُمكنا وتُحتم علينا تحليلها وتدقيقها بتمييز مسبباتها وما يترتب عليها للوصول لقناعة ذاتية تؤكد مدى قربها من الحقيقة، ولكن ماهي الحقيقة التي يطمح الإنسان لإدراكها؟، فبالرغم من ارتباط الحقائق بجنسنا البشري إلا أن البشر تضاربت آراؤهم، فمنهم من يقر بوجود حقيقة مُطلقة ما دامت الأشياء مُتضمنة لصفاتها في ذاتها وتدركها عقولنا، في حين بالمقابل هناك من يـؤكد على استحالة بلوغها ما دام العالم في تغير مستمر والعقول تنمو وتتطور، وبين هذا وذاك فإنه علينا التمييز بين ما هو جدير بها وبما هو نسبي لا يرتقي أن يبلغ مشارفها.
بالتأكيد لكل منا ثوابت مُحرمٌ مساسها، مقياسنا الوحيد فيها لمعرفة الصواب والخطأ هو الأخلاق الإنسانية التي نعتمد على صمودها وترسيخها في العلاقات البشرية لتحفظ ثبات المعايير، وتأسس قواعد القيم، وإلا اختلت الموازين وانهارت المجتمعات، لذا لا تخلط الأمور وتدافع عن أفكارك السطحية والتي قد لا تتناسب مع واقعك وتعاملها معاملة الثوابت فقط لكونك لم تتعرف على غيرها، أو تسمح بتقبل ما يُناقضها. أحياناً أشعر بأني مع أجناس غريبة وإن جمعتنا أسوار أسمنتية واحدة، تركيبة متناقضة لا تمت لمواقعها بصلة – تستثير فضولي لأتخيل كمية العقد والتراكمات غير المرئية والتي تظهر على سطح صاحبها، دون أن يعي بأنه بات من شدة تعصبه لفكرة ما، كالقارورة الشفافة التي تفضح ما بداخلها، لترى كل الشوائب التي ترسبت بالقاع وهي تطفح بعد أن نمت تفاعُلاتها وتجذرت -، فعندما تشارك بمحفل يرفع شعاراً للسلام، يُتوقع منك ان تكون داعياً له أو محباً، أو على أقل تقدير تحمل بداخلك نزعة منه، لا أن تكون مُهاجماً، يُفرغ كل معتقداته البالية وسمومه الضارة، ليثير العداوات ويؤجج الأحقاد ويزرع الفتن، وينطلي هذا المثال على جميع المواقف والمحافل التي ينتمي إليها المُتعجرفون، وهم قلة، إلا انهم واضحون كبقع السوس، التي عليك أن تلاحظ وجودها مُبكراً لتقتلعها قبل أن تنتشر. تأكد أن سماحك لمرور الأفكار التي لم تكن تتبناها سيعزز إثراء مداركك الدنيوية ويحررك من الأفكار البالية، لتعتاد التصنيف بينها بعد أن تملك العديد من الآراء والاختيارات التي ستقوم بدراستها للوقوف على أفضلها وانتقاء أجملها، ولا يعني ذلك تبنيها بالضرورة، بل هي تنقية ذاتية تُمحص بها أفكارك وتطورها، لتنتقل لمستوياتها الأعلى، فتدرك مدى مناسبتها لك الآن وقوة تناغمها مع محيطك، حينها فقط ستعيّ جيداً ما عليك استبداله، فلا تخش هذا التغيير وإن كان ذلك سيُربك من هم أشباه نسختك القديمة، وسيغضبون لأنك بذلك جعلتهم يواجهون معتقداتهم وأفكارهم الهشة