الهديل

شيخة غانم الكبيسي: عش اللحظة

شيخة غانم الكبيسي:

عش اللحظة

لم يفارق مُخيلتي منظرها الكئيب وانطواؤها الخجول، نمر من أمامها دون ان نلاحظ وجودها وكأنها ما عُلقت عليه، لقد كان بوسع الحائط عكس صورتها كالمرآة لتغوص في سطحه كسفينة تلتهم أجزاءها الأمواج عندما تتشابه وتختلط بألوانه، فتشاركه الجمود لتذبل بين أحضان أمها الحنون، أذكر حجم زواياها الأربع عندما تعتلي ذرات الغبار إطارها الداكن، تنتظر بتوجس عابراً يقظاً يسير بقُربها تتعلق بها نظراته، ليلاحظ وجودها ويعيد لها الحياة التي ألفتها، عندما كانت تستصرخ مستنجدة اهتماماتنا المتراكمة، تحثنا ببراعة المتمرس لتثير حواسنا، تستجدي نظراتنا لتلاحق خطواتها وهي تدور باستحياء في حلقاتها المُفرغة لنستمع لدقات قلبها المتسارعة والتي للأسف لم نعرها انتباها لعقود. فلقد كانت أجسادنا ملتصقة بتلك الدقائق ولكن أرواحنا تبتعد آلاف الكيلومترات عن لحظات السعادة التي تتضمنها كل تلك الأزمنة بأجزائها الدقيقة المتناهية الصغر.

 

كانت تعلم بأننا سنعود لتأنيبها وتوبيخها على سرعة مُباغتتنا بعد ان ضاعت الأوقات وتلاشت اللحظات، سنلتقيها بالممرات وأكبر الصالات لنلقي جُل خيباتنا على طعنات عقاربها المسمومة التي سلبتنا الفرص وقضت على أحلامنا التي ابتلعها الزمن مع سنوات العمر فذابت كأدمع الشمع.

 

كبرنا معاً ولكن الثواني معها كبرتْ أكثر لتمتص قواها، في حين انتقصت من أعمارنا وتسربت كالزئبق من بين أصابعنا، فاختلطت المشاعر بين مراقبة هرولتها وتجاهل صوتها الذي يتك تك في الأرجاء.

 

فبعد ان مضت كل تلك السنين، نتذكر مواقف وأحداثا تُعيدنا لتلك الأزمنة ولكن نعجز عن تذكر مشاعرنا خلال كل كمية الثواني والدقائق التي عشناها، فنحن نمضي بطريقنا حاملين الماضي بتفاصيله ومنشغلين بالمستقبل وأهدافه، غير مكترثين بعيش اللحظة التي باتت جزءا زمنيا يمضي بين الماضي والحاضر يخلو من المتعة والأهمية.

 

ثم بعد كل ذلك يأتينا من يتشدق بالأعمار ويقارن بالأرقام، ليوحي لنا بالكبر والعجز، وكأن حالنا تغير الآن وبتنا نأبه لأعدادها المتزايدة أو نخشى تناقصها.

 

نعم انه واقعنا الحتمي، فستستمر الحياة وستتوالى الساعات والأيام إلى أن تنقضي أعمارنا الزمنية، وليس من ذلك مهرب، ولكن بالقلوب تكمن هوية أخرى وإدارة مختلفة للزمن يتم تسجيل العمر الافتراضي فيها لقلبك، فإن كان متوهجاً تلاشت منك أعراض تلك الأعوام، لتؤمن بأن تلك الأعمار ما هي إلا أرقام يحددها الآخرون لنا، وأن هناك أرقاماً يحددها القلب بإيعاز منك، فاحرص دائماً على عدم رفع سقفها الرقمي. فبعد خوض كل تلك التجارب التي امتزجت بالانتصارات والإخفاقات، وجدنا أننا لم نكن مُجبرين على ممارسة تلك الطقوس الحياتية التي أُقحمنا مُرغمين بدواماتها اللامتناهية لننغمس بصخبها مُتجرعين كؤوس آلامها المُرة، متسائلين باستغراب ألم يحن الوقت بعد لتحطيم كل تلك الكؤوس!!!

 

واستبدالها بقوارير نرتشف من مبسمها عذب المذاق والشهد المـُصفى، لنتلذذ بلحظاتها ونستشعر جمالياتها الأبدية، لكون القلوب لا تشيخ والأرواح لا تهرم، وان بدت علاماتها على أجسادنا فلن تطول أعماقنا المُحبة للحياة كزهرة تزهو ببساتينها الفسيحة وتتباهى بأغصانها المثمرة.

 

فلا يثبطك رقم، أو يرعبك افتراس الشعيرات البيض لمرآتك التي لم تحتفظ بشبابك كما يفعل ألبوم الصور، ولا تتوجس من قطار العمر فهو لن يفوتك ما دمت تقف منتظراً له على أرصفة المحطات كخيول جامحة لا تُقيدها مسارات، يمضي ناسياً مكابحه، دون ان يكترث لتلك الأرصفة المكتنزة بمواويل الحزن وآهات الغرباء، لتحجز مقعداً أمامياً بقرب نافذة الأمل وتشاهد ومضات العمر الجميل وانت مغمض العينين بكل طمأنينة، دون امتعاض لقطرات المطر التي تكدست لتحرمك متعة النظر من خلالها، أو تُفزعك فكرة الارتطام أو حتى يزعجك ضجيج الركاب، سكينة لا تنشغل فيها بضياع حقائبك ومستوى الخدمات التي لم توفر لك، فلقد أرهقك الترحال وتآكلت تفاصيلك بحثاً عن موطنك، فكل ما يعنيك الآن هو لقاء محبوبتك الشقية، التي مع مرور الوقت تزداد اشتياقاً للجلوس بقربها والاستمتاع بهمسات أحاديثها، ها هي تقترب بثوبها الأبيض الفضفاض تقطع الممرات فتنكسر الرقاب لهيبتها، لتختارني أنا وتمنحني شرف رفقتها الدائمة، إلى أن تصيح الصافرة معلنة مغادرتها لمحطة الوصول برصيف النهايات.

إنها اللحظة، نعم هي معشوقتي التي أنوي أن لا أفارقها، وبت أدرك وأستشعر جمالها لذا سأعيش سائحاً بين القطارات بحثاً عنها، فإن كان ليس بأيدينا ان نعيش طويلاً فإننا نملك أن نعيش كثيراً بامتلاكها، فيوماً ما سننظر للخلف وسنشعر بالفخر لأننا لم نستسلم لبلوغ مرحلة عيش اللحظات التي لا تعادلها حياة.

 

Exit mobile version