الهديل

شيخة غانم الكبيسي :إلى أبي

شيخة غانم الكبيسي : إلى أبي 

إلى القلب الكبير والحصن المنيع الذي التصق باسمي ليُثبت قواعده ويقوي ركائزه ويرسم تاريخه.

إلى من لا زال يؤنسني خياله كُلما فاضت بي الذكرى وطال عنائي.

يتذلل قلمي وينحني أمامك مُعتذراً…

فلقد أقلقنا راحتك بتفاصيلنا ومطالبنا التي لا تنتهي، جعلتنا جوهر اهتماماتك حتى قبل أن نُخلق، تداخلت أقدارنا معك لتغدو تضحياتك إجبارية، فانسابت أيامك من بين أصابعنا، دون ان نشعر بثقلنا ونحن نتراقص حولك ونقفز على كاهلك.

لن اخفيك اشتياقي لنظراتك الحادة رغم ذبولها، وضحكاتك المجلجلة رغم ندرتها، أفتقد رحلاتك البحرية صيفاً ونزهاتك البرية حين تخضر الأرض ويشتد الشتاء، أذكرك مع ارتفاع الأذان وصباحات الأعياد وسقوط الأمطار، فأشتم عطرك المفعم بصوتك الجهور، لكن تلك الذكريات لا تهوّن عليّ سفرك الأخير بل ترعبني وتقهرني وتفاقم فقدي لتفاصيلك.

الآن بت أفهم بأن الحياة قست عليك قبلنا، عندما حرمتك صغيراً حنان الأبوين، فلم تعتد ان تظهر مشاعرك التي كنا نلتمسها بأفعالك ونظراتك التي تحرسنا كيلا يصيبنا مكروه أو يعكر صفونا عارض، استوعبت قسوتك وتقبلت الفاظك واحببت قوتك وصرامتك لينتهي بي الأمر وأكون نسختك.

لم تكن هين الطباع، بل كنت رجلا شديد البأس ذا هيبة صنديدا، لا تسمح لأحد بمناقشتك أو مُخالفة أوامرك أو الخروج إلا برفقتك – ولا أنكر استثنائي من بعض ذلك – لذا فلم أعترض أبداً لقناعتي بخوفك علينا وحمايتنا مما هو خارج السور.

لكن رحيلك بعثر اللمّة التي ما ظننت عقدها سينفرط، غاب الأسد عن عرينه، غاب الزاهد الصارم المُتدين عن معبدة، فقدنا التعويذة الحامية من الجن، والتراتيل الصباحية، انطفأت الشمعة وانكمش شعاعها المحيط بنا فغدونا كالطائر الصغير العاري من الريش عندما يُرمى وسط طريق مزدحم والمطر ينهمر امام عينه فلا يُميز الاتجاهات التي عليه ان يسلكها ليتفادى ضربات الزمن التي ستفتت عظامه وتبعثر أشلاءه.

أعلم بأنك تُعاقبني لأني ابكيتك يوم زفافي، ورأيت دموعك النادرة وانت تشيح بوجهك عني غاضباً وقد احتقن وجهك دماً وبرزت عروقه، لم يكن استيعاب ابنة التاسعة عشرة ناضجا حينها لتعي وجع الغياب الذي سببه انتقالها لمنزل يبعد عنك عشرات الأمتار فقط.

فلم أفهم بأن بُعدي اتعب قلبك، وأسرع في رحيلك، إلا بعد مغادرتك بسنوات، لأكتشف بأني انشغلت ببناء أُسرتي المستقبلية لأهدم الماضي الذي سيظل يلاحقني…

سرقت الصدمة دموعي وكذبت حقيقة غيابك، لكونك دائماً تغيب لتعود مشتاقاً لأناملي التي تداعب خصلات شعرك فأشتم أنفاسك وأنت مُستسلم بين يدي الصغيرتين، تحكي لي القصص وتمازحني مُدللاً.

لكن بعد ان طال غيابك وأيقنت أننا لن نكون بعد الآن معاً، بكيتك بحرقة حتى تقطعت أنفاسي وتمزق قلبي كمداً عليك، فلم أتقاسم حزني، لأني أردتك حتى في غيابك لي وحدي، أنعى أياماً معك لن تعود وأماكن تلاشت من خريطتي ومناسبات خلت من وجودك، اناظر صورتك التي لم تفارق هاتفي، واتحدث معها، لأكتشف بأنك ما زال لديك فضول لمعرفة أخبارنا؟

دعني أُطمئنك يا أبي، فلم يتغير حالنا كثيراً، عطاءاتك لم تضمحل بغيابك، كالشجرة نستظل بأغصانها الممتدة، تجمعنا معاً رغم الشوارع الطويلة وأسوار المنازل التي تفصلنا، فبعد ان سلمت الراية لوالدتي، امسكت بدفة السفينة لتقودها بأمان فتلك السيدة الضعيفة استمدت القوة من غيابك الذي كسرها أول الأمر ولكنها نفضت حزنها لتتعامل بحكمة مع المحن والخسارات التي كبرت بعدك.

أخبرك سراً؟ ابنتك الكبرى التي كانت دائماً تعارضك وتختلف معك، امتلأت ندماً وتدعو رضاك بعد ان أنهكها غيابك، عسى ان تعود أيامك لتختبئ بين جناحيك، وأخي الصغير ما زال غاضباً تائهاً يبحث بين الوجوه عنك، تركته بعُمر لم يكن فيه صغيراً لينسى، ولا كبيراً ليحتمل ألمَ رحيلك، استندنا جميعاً بكتف أخينا الكبير الذي ولد بلا طفولة أبا صغير يحمل صفاتك وجد نفسه دونما رغبة أو خيار يحمل أقدارنا بعد ان قرر أحد أخوتي فجأة ان يذهب اليك دون وداع.

أرجو ان تعذر صراحتي كما أعذر قلة تواصلك، لذا لن أكف عن تسطير كلماتي التي تثور بعد زياراتك لأحلامي مُبتسماً، مُطمئناً، لتنفرج اساريري مع الصباح فتُضيئ أحلك أيامي.

وبالرغم من كونك لا تعرف القراءة إلا أنني بعد ان ولَّت عشرون سنة على غيابك قررت ان أضع رسائلي بجوار قبرك في الزيارة القادمة، لأنك ستبقى دائماً في فؤاد صغيرتك.

Exit mobile version