بين تمرد فاغنر وتعطيل فيلق القدس
بقلم د. حارث سليمان
انتجت نهاية الحرب الباردة، في نهاية القرن الماضي، ولادة ظاهرة الجيوش الرديفة، و الشركات العسكرية الخاصة. ونتج عن هذه النهاية انخفاض كبير في ميزانيات الدفاع والعسكريين في جميع الدول الغربية تقريبًا.
لكن الصراعات الإقليمية، المعروفة باسم المنخفضة والمتوسطة الشدة، تفاقمت وانتشرت في جميع أنحاء الكوكب. في بيئة دولية أصبحت أكثر اضطرابًا ، ومع واقع انخفاض كبير في حجم القوات المسلحة ، توجب على الدول أن تواجه حالات تتطلب التزامًات عسكريًة متوسعة ومتصاعدة.
ادت الزيادة الكبيرة في التدخلات الخارجية من قبل العديد من الدول الى استخدام وسائل بديلة عن القوات العسكرية الرسمية، لإنجاز العديد من المهام التي كانت تُنقل تقليديًا إلى الجيوش، وذلك لتنفيذ كل مهام المرافقة والدعم للوحدات العسكرية ، وتستمر الحكومات الآن في التحول أكثر فأكثر إلى الشركات الخاصة.
لقد أصبحت “خصخصة” الحرب ظاهرة اجتماعية حقيقية، وهي لم تفتح المجال أمام قطاع اقتصادي واسع فحسب ، بل أدت أيضًا إلى زعزعة الوضع السياسي في ظروف معينة.
وواقع الحال ان الشركات العسكرية الخاصة هي جهات فاعلة في خصخصة الحرب ، وموضوع اثارة لجدل واسع.
الشركات العسكرية الخاصة ليست مرتزقة أو لم تعد فقط كذلك.
في حالتنا، نحن بعيدون عن صورة هذا الجندي الأجنبي الذي يصل إلى بلد في خضم الصراع ويهتم بالعمل القذر مقابل أجر، كما حدث في ازمة كوبا في ستينات القرن الماضي، حيث نظمت وكالة المخابرات المركزية الاميركية انزالا على “خليج الخنازير” على الجزيرة الشيوعية عبر تنظيم قوات من المرتزقة الكوبيين المنشقين عن حكم الرئيس الكوبي فيديل كاسترو.
يرتبط الجنود العاملون لدى الشركات العسكرية الخاصة بعقد موقع مع شركة ذات وضع قانوني ، بينما يتم تعيين المرتزقة المستقلين بشكل فردي من قبل الحكومات أو حتى من الجماعات المتمردة.
تمارس هذه الشركات أنشطة متنوعة، ولقد كانت الجيوش سابقا، تعتمد على الشركات المدنية بإدارة امداد المقاتل (الملابس ، تحضير وتوزيع الوجبات) ، صيانة وإصلاح المعدات (أسلحة ، سيارات ، طائرات) ، ضمان تنظيف المنشآت ، مراعاة اللوجيستيات ( على وجه الخصوص النقل) والتعامل مع بعض الأعمال المتعلقة بتكنولوجيا المعلومات، لكن الشركات العسكرية الراهنة تتوسع ممارساتها و تتراوح مهاراتها بين العمليات القتالية في الخطوط الأمامية ، و الوظائف الاستشارية والتدريبية ، من خلال الخدمات اللوجستية ، أو الصيانة وجمع المعلومات الاستخبارية للقوات المسلحة الوطنية.
ولعل اكبر توسع لظاهرة انتشار الجيوش الرديفة والموازية لجيوش الدول، اضافة للشركات العسكرية الخاصة، كانت في افغانستان بعد وابان الاحتلال الروسي لها، فقد بدأ الامر بتزويد الاحزاب الافغانية بالدعم المادي واللوجستي والتسليح من قبل تحالف قادته الولايات المتحدة الاميركية وضم مصر السادات و المملكة العربية السعودية وباكستان، ثم تولت المخابرات السعودية والمصرية، بدعم أميركي، تشكيل منظمة العرب الافغان، التي تحولت لاحقا وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي الى منظمة القاعدة بقيادة اسامة بن لادن، كما تولت المخابرات الباكستانية انشاء منظمة طالبان ومكنتها من تولي السلطة في افغانستان بعد هزيمة بقية الاحزاب الافغانية التي شاركت بقتال الجيش الروسي وفرض انسحابه من افغانستان.
على خط آخر مواز، قامت ايران بعد ثورة الامام الخميني، بانشاء الحرس الثوري الايراني، وهي قوات ايرانية نطاق عملها حدود ايران، وتشكل جيشا موازيا للجيش النظامي الرسمي، ومهمتها حفظ نظام ولاية الفقيه، والدفاع عن اسلامية الجمهورية، لكن هذه القوات تضم ايضا الى صفوفها فيالق عدة تعمل خارج ايران واهمها فيلق القدس والوية فاطميون وزينبيون و الفصائل الولائية في الحشد الشعبي العراقي، وانصار الله في اليمن، وحزب الله في لبنان وسرايا القدس في فلسطين، وتدور عمليات هذه الفصائل في العراق واليمن ولبنان وسورية وفلسطين ودول اخرى في اوروبا واميركا اللاتينية، وهو جيش يُمَكِّن ايران من خوض حروب تدخل خارج اراضيها.
وقد ظهر للعلن انشاء الجيوش الرديفة تحت مسميات شركات عسكرية خاصة، اثناء الاحتلال الاميركي للعراق من خلال شركة بلاك ووتر الاميركية، وهي أولى الشركات العسكرية الخاصة التي انخرطت في أفغانستان بعد هجمات 11 سبتمبر / أيلول 2001، وشهدت التدخلات في العراق وأفغانستان تدخل أكثر من 250 ألف موظف في شركات عسكرية خاصة وشركات أمنية خاصة، وقد بلغ حد انخراط بلاكووتر في الاعمال القتالية ان كتبت احدى الصحف الاميركية انه لم نعد نستطيع التمييز بين ما تقوم به بلاك ووتر وما تقوم به وكالة الC.I.A.
في المقلب الآخر من العالم تظهر شركة فاغنر التي حاول رئيسها منذ أسابيع، تنفيذ تمرد على وزارة الدفاع الروسية، فشل في اكماله، ويدير “بريغوجين ” مجاميع من المرتزقة تعمل بالخفاء في ليبيا , سوريا , السودان , مالي , موزمبيق , وحتى داخل اوكرانيا. ولا تمارس فاغنر القتال فقط كما حدث في أوكرانيا، بل تمارس سطوة وشراكة وحماية في مناجم الذهب والليثيوم والأورانيوم والالماس وحقول النفط في الدول الافريقية التي تتواجد فيها، وقد تم الاعلان عن وجود فاغنر في سورية وهو ما نفته موسكو ليتبين أن الامرحقيقي بعد تمرد بريغوجين.
ويقول خبراء روس عن دور الشركات الأمنية، إن الشركات العسكرية وعلى رأسها فاغنر أصبحت “جيوشا تحت الطلب، تلجأ إليها بعض الدول لتجنب التكلفة السياسية حال مقتل جنودها النظاميين خلال معارك، كما تنفذ عمليات سرية”.
لأن الخسائر التي يتكبدها موظفو الشركات العسكرية الخاصة، لا تؤدي إلى تأثير كبير على الجمهور مثل مقتل الجنود ”
وقد برزت في النزاع الأوكراني، أسماء عدة شركات أمنية، فعلى الجانب الروسي كان أشهرها “فاغنر” و”فوستك”، ومن طرف أوكرانيا هناك كتيبة “آزوف” و” الفيلق الدولي”، الذي جنّد مرتزقة من كل دول العالم..
ويبقى من الصعب معرفة العدد الحقيقي لهذه الشركات الصغيرة والمتوسطة في العالم ، بعضها يعمل في الظل ، والبعض الآخر تم حله. لا توجد خرائط تبين الانتشار الجغرافي. للشركات العسكرية الخاصة ، فهذا قطاع آخذ في التوسع منذ تسعينيات القرن الماضي.
والسؤال الأول الذي يطرح هنا؛ ما هي مصلحة الدول في اللجوء الى الشركات العسكرية الخاصة؟
واما السؤال الثاني فهو؛ ما هي المزايا التي تريد استغلالها عند اللجوء الى هذا الخيار ؟
تنشأ هذه الشركات في كنف مخابرات الدول وأجهزتها الامنية ووزارات دفاعها، وهي كيانات تلتزم اوامر الاجهزة الامنية، لكنها لا تلتزم قواعد انضباطها ولا تخضع للمساءلة القانونية والقيمية التي يفرض على مؤسسات الدولة واجهزتها الامنية الإلتزام بها، هي وليدة اجهزة المخابرات والمنفذة لتعليماتها، لكنها المنفلتة في نفس الوقت، من قواعد الانضباط وقواعد الحروب التي تتمسك بها البرلمانات ومنابر السياسة والصحافة ومراكز صناعة السياسات العامة، لذلك هي لا تخضع لآليات المساءلة القانونية والقضاء في بلادها، وتتهرب من رقابة السياسيين والبرلمانات والاعلام، وتعمل خلافا للقانون الدولي و انتهاكا لمبدأ احترام سيادة كل دولة على اراضيها.
سلوكها اقرب ما يكون ل بلطجي او شبيح، تأخذ على عاتقها تنفيذ مهمات، يخجل ويحرج راعيها ان يقوم بها علنا وبنفسه، وتنتهك سيادة دول اخرى تعتبرها ساحات عمل لها، و تنفذ عمليات سرية فيها” ولذلك هي شركات انتهاك للقانون؛ قانون اوطانها وقانون دول ساحاتها، وقانون حماية المدنيين خلال الحروب، والقانون الدولي ومعاهدة فيينا.
لا تتولى هذه الشركات انجاز الانتصار في الحروب، فهذه مهمة الجيوش في الطور الاول من الحرب، لكنها تتولى انجاز هزيمة المغلوب واضطهاده وادامة خضوعه واستسلامه في الطور الثاني من الحرب، فقد تورطت في العراق شركة بلاك ووتر العسكرية الأمريكية الخاصة في مجازر وأعمال تعذيب. وفي عام 2007 ، على سبيل المثال ، أطلق أربعة عملاء من شركة بلاك ووتر النار في ساحة عامة، على مدنيين عراقيين بشكل عشوائي. قُتل 14 مدنياً بينهم نساء وأطفال ، وأصيب 17 آخرون. لكن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب منح عفواً عن عملاء بلاك ووتر الأربعة في ديسمبر / كانون الأول 2020.
لا تخرج هذه المنظمات عن القوانين والاعراف الدولية والانسانية فقط، عندما تتصدى لتنفيذ مهماتها الامنية والعسكرية، لكنها ايضا تمارس غالبا الجريمة المنظمة وتبييض الاموال وتهريب الالماس والمخدرات وغيرها من الجرائم الدولية.
في حالة فاغنر والحرس الثوري في ايران لا تكتفي الجيوش الرديفة بان تخوض الصراع في الدول الاخرى خارج اوطانها، بل تنخرط تشكيلات هذ الشركات او المنظمات الرديفة في الصراع الداخلي بين مراكز القوى في السلطة، وتحاول التأثير في قراراتها وتوازناتها، ومن تربى على انتهاك القواعد والقوانين لا يمكنه الاحتكام الى اللعبة الديموقراطية في الصراع على السلطة، لذلك كان تمرد فاغنر نتاج طبيعي لسنوات من الخروج عن القانون، ويستمر تعطيل ديموقراطية لبنان من قبل حزب الله، كنتاج طبيعي لعقل لا يعترف بالقيم الآمرة لتداول السلطة في بلد متعدد.