الهديل

عمر حرقوص مودعا حبيب صادق

كتب عمر حرقوص مودعا حبيب صادق

في استعادة “عزيزي”

مات حبيب صادق، إذاً كيف يمكننا توديع الرجل صاحب أكبر “إقطاع ثقافي” كما سماه رئيس المجلس النيابي “منذ الأبد” نبيه بري، من دون أن نذكر ما له من تسميات كثيرة، الأمين العام للمجلس الثقافي للبنان الجنوبي منذ تأسيسه، كاتب، يساري وجنوبي ومناضل سياسي في مواجهة المذهبية، النائب “المؤدب” في البرلمان الأول الذي تلا الحرب الأهلية وضم المافيات ورجال الميليشيات؛ “عزيزي” – وهي كلمته المحببة – الذي كنا نتندر أنه واجه مرضين من أنواع السرطان الخبيث وقضى عليهما من خلال تحويل جسده إلى حقل تجارب لأبحاث وأدوية جديدة، واجه إقطاعية آل الأسعد والاحتلالين الإسرائيلي والسوري للبنان، ومن معهم من أحزاب لبنانية عقائدية ومذهبية وحتى يسارية، نعم يسارية “يا عزيزي”، ألم تذكر ما قاله أحد “الرفاق” الشيوعيين حين سُئل في كفرمان عن العلاقة مع “حبيب صادق”، يومها قال “الرفيق”: “حبيب بيروح على أميركا مش ليتحكم من السرطان.. حبيب بيروح يعطيهم دورات للمخابرات الأميركية”.

لنتذكر أيضاً أن حبيب قتل مرات عدة ومات كثيراً كما عدد نقاط الدموع التي انهمرت من عينيه مع مقتل أصدقائه، موته الأعنف حين أحرقت مكتبة “المجلس” في 24 فبراير عام 1986 في اشتباك بيروتي بمواجهة “الحزب الشيوعي” قُتِل شقيق مسؤول “حزب الله” في منطقة بيروت مصطفى شحادة، قام عناصر “حزب الله” بإحراق مقر “المجلس الثقافي” في برج أبي حيدر، نعم أحرق “الحزب الأصفر” المقر وأحرق فيه مكتبة تاريخية لكتب جبل عامل أو جنوب لبنان، كان حبيب صادق على مدى خمسين عاماً يجمع هذه الكتب القديمة جداً من بيوت الجنوب ليحفظ ذاكرة المنطقة.

مات حبيب صادق أيضاً حين القتل لاحق رفاقه المثقفين والسياسيين، الصحافي سهيل طويلة وصاحب “النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية” الكاتب حسين مروة وعالم الاجتماع مهدي عامل وبعدهم بعقود الصحفي سمير قصير والسياسي جورج حاوي وغيرهم كثر.

حياته شهدت خيانات ومآس كثيرة، حين قتل ضباط من النظام السوري الزعيم الدرزي كمال جنبلاط واحتل جيش الأسد لبنان، وحين اجتاحت إسرائيل وبقيت بيروت محاصرة وما تلاها من مجزرة صبرا وشاتيلا.

ومن حلفائه تلقى طعنات، نعم حلفائه، حين أعلن المعارضون للاحتلال السوري “المنبر الديمقراطي” من قاعات “المجلس”، بعد ساعات تخلى كثر عن توقيعاتهم على الإعلان بعدما اتصل بهم “فسّيدو” وهذه الكلمة معناها لبناني يتلقى أوامر من ضابط بالمخابرات السورية لتهديد الآخرين، فأرسلوا للصحف يستنكرون وضع أسمائهم بين المطالبين بانسحاب الجيش السوري من لبنان، ولاحقاً تخلى حلفاء “يساريين” عن الانتماء لـ”المنبر” وقرروا تحييد أنفسهم عن الصراع في سبيل مواجهة “الإمبريالية” فلا صوت يعلو فوق صوت محاربة العدو الغاشم، وآخرون قرروا أن يؤسسوا لقاءً ذو وجه “مسيحي” بدل الإبقاء على تنوع “المنبر” الذي وقف يواجه كرأس حربة في السابع من آب 2001 حين انقضت المخابرات اللبنانية والسورية على مناصري “القوات اللبنانية” و”التيار العوني” و”الوطنيين الأحرار”، كانت التهديدات متواصلة ولم يتراجع “عزيزي” ومن تبقى في “المنبر”.

حبيب صادق شريك “انتفاضة الاستقلال” عام 2005 الذي وقف مع آلاف الجنوبيين يوم اغتيال رفيق الحريري في ساحة الشهداء بدون خوف من صاحب مقولة “شكراً سوريا الأسد”، كان ورفاقه يحملون صورة الجنوبي المقاوم بوجه الاحتلالات، لكن انتخابات ذلك العام شهدت تخلي الرفاق في قوى وأحزاب 14 آذار ومنهم أقرب الأصدقاء وليد جنبلاط، تخلوا عنه وعن الجنوبيين وقدموهم كتضحية على مذبح “الحلف الرباعي” مع “حزب الله” نفسه الذي أظهرت المحكمة الدولية أن مسؤولين فيه هم من اغتالوا رفيق الحريري.

صب الرفاق أصواتهم “للحلف الرباعي” مع صاحب التفجيرات والاغتيالات، وذبحوا “حبيب” ورفاقه احتفالا بلبنانهم الجديد الذي ضاع عند أول مفترق في حرب 2006 بين حزب الله وإسرائيل.

مات حبيب صادق.. لا شيء يدعو لرثائه، فهناك اشياء كثيرة تستدعي أن نقولها بفرح إننا كنا هناك سوياً، نختلف ونتفق، ننهزم وننتصر.. ونبقى.

Exit mobile version