شيخة غانم الكبيسي
وجع الفقد
اعتدت تدللاً ألا أفتح لضوء الشمس عينيّ مباشرة مع بداية يومي، أتحاشى أشعتها بنظارتي الداكنة، أداري عنها أنسجتي المُرهفة خوفاً من قسوتها الحارقة، فلا تغريني موجاتها الكهرومغناطيسية ولا تشفع لها رحلات عبورها غلافنا الجوي، لكن خبر رحيلك في ذلك النهار الحار المشمس أنساني تفقد حقيبتي قبل خروجي من المنزل للتأكد من وجود النظارة بها.
كالصاعقة وقع، جعل خطواتي تتسارع لأسابق الزمن لعل الحياة تمنحني لحظات وداع لمن حكم الزمن علينا بمفارقتهم وكأن غيابهم كان مُفاجئاً. تجاهلت كل الدلائل والإشارات والتقارير الطبية، استبدلتها بالحظ الذي رافقني دائماً، لكنه اليوم غدر بي وخانني معك، أختبأ بجيوبك الأنفية وتحت هالاتك الداكنة ليرسم ابتسامة رضا على شفتيك، وأنت تودعين بها جسدك الذي أسرف بالكتمان حتى تآكلت أجزاؤه بالأورام.
أحكمت يدي على مقود السيارة بعد أن رميت بجسدي داخلها وتركت لها توجيهي لتقودني لمصيري متوكلة، غير مكترثة لمطباته وتعرجاته، بعقل شارد تتسع أحداقي أمام ضياء الشمس، لتنير بصيرتي لنعم حُرم آخرون منها. كم هي بديعة دافئة، فلم تؤذيني أشعتها لأنني بادلتها الحب ولامست أطيافها لتتدفق بمقلتي المتعطشة للهبات الربانية التي اعتدنا وجودها فهضمنا قيمتها وأبخسنا دورها وحقها وكأنها أمر مُسلم.
فليس معتاداً في عمق دوامة الحياة تدبر أن هناك أرواحا طويت صفحاتها وغُلفت أعينها وكُفنت أجسادها، وحُرموا من هذا النور الأرضي للأبد، إلا عندما تفقد عزيزاً ويؤلمك هذا الغياب الذي لا يليه لقاء، يغادروننا راضين مُكتفين ولكن بجعبتهم أُمنية عودة لهذا النور الكوني، لتبليغ وصية أو طبع قبلة أو فعل خير يرفعهم درجات وينير مثواهم.
رغم سرعتي وصلت متأخرة، فصلتني عن مغادرة جثمانك الأخيرة للبيت دقائق بسيطة، لا يمكن قياسها بعد أن سرقت وداعك بين أجنحتها، لم يعد للدموع قيمة ولا للعزاء جدوى بعد أن سلبتني الصدمة مشاعر الحزن، أربكت مشاعري ففقدت بوصلتها لتضيع بين الوجوه المتصنعة وبكاء الغرباء، تبتسم لصورة كَفّنها الموت التقطتها يد مُحبة، تسببت بانهيار آخرين وسقوط كل أقنعة الصمود والجبروت التي نتجمل بها، حشود مواسية جاءت لترثيك بالوقت الضائع، وجوه كانت لك مصدر ألم تنتحب اعترافاً وتكفيراً، ليتك تشاهدين سكينتك وهدوءك ماذا فعل بهم.
إنه الفقد الذي يُفجعك رغم انتظاره، ألم عميق لا دموع له، تذكرة رحيل تم حجزها غير محددة بوقت أو يوم، أرعبك قرارها ومباغتتها روتين حياتك، فلا تملك ترف توقيتها، ولا كُتيب يرشدك لأسلم سبل مواجهتها.
أرواح نفتقدها، غادرت عالمنا السطحي ولكنها ستبقى بأرواحنا تنبض، وإن أشغلتنا الحياة وعاركنا أمواجها إلا أنها الحقيقة التي تطأطأ رؤوسنا وتفقدنا حاسة التذوق، أن في غيابهم هيبة، نقف أمامها بذهول يشل أطرافنا، فلا ننتحب، لأننا نبكي دائماً فيما بعد، عندما تتجمد الدموع، ويتوقف الحداد، وتتسع المسافات، نخبئ دموعنا تحت وسائدنا لنخنق صرخات وجع الفراق، نشيح بوجوهنا وهي تشيخ لعل روحاً تعود لطمأنتنا أو زيارة بـأحلامنا تسعدنا.
أنيقة أنتِ بآلامك وأحزانك وجراحك، كذلك كُنتِ بغيابك، لم تطيلي مرورك بين الحيوات إلا عليك، رأفتِ بمن لم يرأف لأوجاعك بتجاوزك غيابهم عندما كان ضروريا وتجاهلك نكرانهم الحقير لعطاءاتك.
ما زالت نبرة صوتك تتدافع بأذني الوسطى، أسمعها بقلبي هذه المرة، لها وقع مختلف تماما، أستشعر بذبذباتها كل ما كان يصعب عليك بوحه أمام نصائحي المبتذلة.
فقط الآن استوعبت عدم جدواها، فألمك كان أكبر من فهمي ومعاناتك أعمق من مداركي، ورغم ذلك كنت تستمعين وتتصنعين التقبل لكلماتي وهي تتطاير حول رأسك ولا تدخله.
أعلم بأنك ذهبتِ غاضبة، فلم تكن مقاسات العقول تناسبك، ولا تقلبات البشر تطمئنك، وأيقن بأن دموعنا لن تكون مصدر عزاء فلن تنتبهي لعويل رثائنا أو رسائلنا الصوتية، لأنكِ لم تعشقي الهاتف إلا للحديث معنا، فلم تستهويك تطبيقاته أو تشدك إغراءاته، وقد تكون سبب عداوتك له علمك بأنه سينقل خبر فراقك لنا لتتسارع الدموع الافتراضية والمشاعر الإموجية بتوديعك.
تعلمين جيداً بأنني لن أنهار أمامهم، لأن الجينات التي جمعتنا لا تتسق مع الانهيار الذي خطف سعادتك، لم تكوني مجرد صديقة فالقرابة العائلية جمعت طفولتنا وتشاركنا الضحك على ذكرياتها التي سأتشاركها الآن مع ذكرى رحيلك الذي سيحول بينك وبين قراءة كتاباتي التي استهويتها، ليتك تقرأين وجع فقدك… لكن للأسف لا تصدر الصحف بالمقابر بل فقط تنعي قاطنيها