كتبت راغدة درغام :
أتت القمة الروسية – الأفريقية، الخميس الماضي، في سان بطرسبرغ كجرعة منشّطة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين العاجز عن حضور قمم استراتيجية فائقة الأهمية له مثل قمة “البريكس” في جنوب أفريقيا، والتي سيغيب عنها بسبب مذكرة توقيف بحقه صادرة عن المحكمة الجنائية الدولية تزعم تورطه في جرائم حرب في أوكرانيا. حشد الكرملين قادة ومسؤولين “حلفاء” من 49 بلداً أفريقياً في القمة الثانية من نوعها، تُفيد على صعيد العلاقات الثنائية مع القارة الأفريقية، لكن الموازين الاستراتيجية لن تتأثر جذرياً وسط نظام عالمي بعثرته الحرب الروسية في أوكرانيا وما زال يفتقد البوصلة.
إحدى مشكلات القادة الأفارقة تكمن في عزم موسكو الالتفاف على عقوبات الغرب ضدها، كما على الوجود الغربي في أفريقيا في زمن التربّص الأميركي والأوروبي لكل من يعتزم لعب ورقة الالتفاف. الرئيس بوتين وعد أثناء انعقاد قمة سان بطرسبرغ بشحنات حبوب مجانية في الأشهر المقبلة إلى ست دول، هي: بوركينا فاسو، وزيمبابوي، ومالي، والصومال، وجمهورية أفريقيا الوسطى، وإريتريا، وذلك على خلفية قلق الأفارقة من توقف تصدير الحبوب من أوكرانيا يقول بوتين إنه ناتج من سياسات الغرب الذي “هو من يعوّق تنفيذ مبادرة الحبوب رغم التزامنا التام بها”. علماً أن روسيا هي التي رفضت التمديد لاتفاقية الحبوب التي رعتها تركيا بين روسيا وأوكرانيا، الأمر الذي أدى إلى قلق من أزمة غذاء عالمية تتأثر بها القارة الأفريقية بالدرجة الأولى.
ما تحدّث به الرئيس بوتين في القمة الروسية – الأفريقية ليس إجراءات تحصين الدول الأفريقية التي تلتف على العقوبات المفروضة على روسيا من عقوبات مباشرة على هذه الدول. فهو غير قادر على أن يقدم الضمانات والحصانات، لأن الغرب يطارده وسيطارد كل من يتعامل معه. تحدّث بوتين بلغة كانت فعّالة في زمن النظام العالمي القديم، وهي اليوم نظرية وخالية من الأهمية عملياً.
قال بوتين، إن “روسيا كانت من أوائل الدول التي استجابت إيجابياً لمبادرة منح الاتحاد الأفريقي العضوية الكاملة في مجموعة العشرين… ونحن نعوّل على أن يُتّخذ هذا القرار في أيلول (سبتمبر) المقبل خلال قمة مجموعة العشرين في نيودلهي”. واقع الأمر أن الرئيس بوتين لن يتمكن، على الأرجح، من حضور تلك القمة، ولن يكون لروسيا الدور الذي اعتادت على لعبه قبل الحرب الأوكرانية. واقع الأمر أن انتماء الاتحاد الأفريقي إلى مجموعة العشرين لم يعد بذلك القدر من الأهمية في أعقاب صعود الحلف الغربي إلى سدة القيادة العالمية.
واقع الأمر أن أدوات روسيا للتأثير الجدّي والعميق في القارة الأفريقية تكاد تنحصر في نشاطات جيش مرتزقة يدعى مجموعة “فاغنر”. زحف “فاغنر” المسلحة نحو موسكو أضعف الثقة وأثار الخوف لدى قادة الدول الأفريقية التي تعتمد على “فاغنر” للبقاء في السلطة. ثم إن سلاح “فاغنر”، بالرغم من أنه فتّاك، يتحداه اليوم سلاح العقوبات المكبّلة للدول التي تجرؤ على المضي قدماً بعلاقاتها التقليدية مع المجموعة ومع روسيا. وهنا المعضلة.
قائد مجموعة فاغنر، يفغيني بريغوجين، فاجأ القمة الروسية – الأفريقية بحضوره ولقاءاته مع قادة ومسؤولين أفارقة، في طليعتهم جمهورية أفريقيا الوسطى، حيث بنى بريغوجين شبكة عسكرية وأمنية ومالية موسعة ومعقدة ومشعّبة كنقطة انطلاق إلى تنفيذ السياسات الروسية في الدول الأفريقية. وقد أتى حضوره برسالة واضحة عنوانها أن تمرده كان عابراً، وأن روسيا باقية في أفريقيا، وأن مهمات فاغنر الأساسية هي دعم استمرار الأنظمة الأفريقية الموالية لروسيا في السلطة، والمجيء بأنظمة بديلة إذا كانت معادية لروسيا.
روسيا ليست بريئة من الانقلاب في النيجر الأسبوع الماضي، والذي يدخل في صلب سياساتها نحو أوروبا وبالذات ضد فرنسا، في هذه المرحلة. النيجر الغنية باليورانيوم مهمة للصناعات النووية الفرنسية، وروسيا غاضبة جداً من فرنسا وتريد خلق المشكلات لها ولأوروبا التي تعتبر موسكو أنها خانتها. هذا الانقلاب لن يكون آخر محطة للنفوذ الروسي في أفريقيا.
مصادر استخبارية تحدّثت عن تطورات آتية إلى ليبيا وصفتها بأنها “تطورات مثيرة للاهتمام”. قالت إن هناك خططاً أولية لشهر أيلول (سبتمبر) أو تشرين الأول (أكتوبر) المقبلين. تحدّثت عن خصوصية ليبيا وأهميتها لروسيا، وعن اختلاف النموذج الليبي عن غيره في أفريقيا “حيث تفرض الضرورة عدم الرهان على حصان واحد فقط”، ومجموعة فاغنر ما زالت أساسية في هذه المهمات والأهداف.
مجموعة فاغنر ما زالت فعّالة في سوريا، بالرغم من ارتياح موسكو إلى استقرار نظام بشار الأسد، الأمر الذي كان حيوياً للسياسة الروسية والإيرانية في سوريا. ما يُلاحَظ هو انحسار الأدوار العلنية لروسيا وإيران في الساحة السورية، والأسباب وراء ذلك عديدة. من بين الأسباب، بالطبع، هو انشغال روسيا بالحرب الأوكرانية. وبالنسبة لإيران، قررت طهران امتحان دبلوماسيتها “الناعمة” في سوريا ما بعد الاتفاقية السعودية – الإيرانية برعاية الصين. فعين إيران على فوائد إعادة الإعمار فيما تنفذ “استراتيجية العنكبوت” التي اعتمدتها مؤخراً.
قيام الولايات المتحدة بتعزيز وجودها العسكري في سوريا أمرٌ يهم روسيا ويقلقها، كما يقلق غيرها. خطر التصادم في الأجواء بين الطائرات والمسيّرات الأميركية والروسية خطر قائم، لكنه ليس داهماً لأن الطرفين عازمان على تجنب المواجهة العسكرية المباشرة، لكنهما أيضاً عازمان على إثبات وجودهما في سماء سوريا، كما على أرضها. خلاصة الوضع الراهن هو أن قرار تعزيز الوجود العسكري الأميركي في سوريا أدّى بروسيا إلى التفكير بمساوئ الركود والتراخي في وجودها هناك.
روسيا تريد أن تبدو كأن العمليات العسكرية في أوكرانيا – كما تسميها – لم تقضم من مكانتها عالمياً، لكن واقع الحرب الروسية في أوكرانيا أدى إلى عزلها كما اضطرها إلى تقليص وجودها العسكري والاقتصادي. الدبلوماسية الروسية تحاول اليوم أن تثبت وجودها سياسياً، وهي في حاجة إلى حشد الأصوات المتعاطفة معها في محافل مثل الأمم المتحدة، ولذلك فإن القمة الروسية – الأفريقية كانت مهمة للرئيس بوتين، ليس فقط لأنها عُقدت في الأراضي الروسية، بل أيضاً لأنها تسبق انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول (سبتمبر) المقبل.
وعود روسيا لـ”الحلفاء” من الدول الأفريقية وغيرها وعود صادقة، لكنها تصطدم بواقع مرير لأن روسيا غير قادرة اليوم على إغداق الأصدقاء والحلفاء بالمساعدات والأسلحة والأموال كعادتها، وذلك بسبب ضيقتها العائدة إلى العقوبات والتضييق الغربي عليها نتيجة حربها الأوكرانية. شحنات الحبوب المجانية تساعد مرحلياً إذا شُحنت في غضون شهور، لكن تداعيات إلغاء صفقة الحبوب كما تداعيات الحرب الأوكرانية أكبر بكثير من المعالجة الانتقالية.