خاص الهديل:
يوجد في لبنان ثوابت لفهم الحدث السياسي اللبناني؛ ومن هذه الثوابت عدم الاعتماد على إجراء “فتح تحقيق لمعرفة أسباب ما حدث”؛ سواء كان الأمر الذي يحدث هو “جريمة اغتيال” أو “صدام أدى لضحايا”، أو “متابعة لعملية اختلاس أو تقصير”؛ الخ..
والواقع أن عبارة “إجراء فتح تحقيق رسمي”، لها في لبنان عملياً معنى واحداً، وهو تجهيل الجاني؛ أما عبارة “إنشاء لجنة تحقيق” فتعني عملياً إرسال القضية المحقق بها، إلى مقبرة دفنها.
.. والمقصود من كل ما تقدم، هو الإشارة إلى أنه في قضية الكحالة لن يصل التحقيق إلى نتيجة؛ لأن التحقيق المطلوب إجرائه هو مراجعة سياسية لسلوك القوى السياسية، وليس مراجعة أمنية لكاميرات كوع الكحالة.. وللمرة الألف يجب التأكيد على أن ما حدث على كوع الكحالة ليس “حادثة سير” أو قضية يتم حل أسبابها ونتائجها بتقديم أجوبة تقنية عليها؛ بل هي حادثة صدام سياسي يجب تقديم معالجة سياسية لها يجيب بالحد الأدنى عن إتهامات طرفي الحادث لبعضهما البعض..
وأول الأسئلة المطلوب الإجابة عنها ينطلق من ضرورة اعتراف كل من حزب الله ومعارضيه على السواء بأن حادث الكحالة تحول إلى صدام نظراً لوجود “إحتقان سياسي” كبير جعل كل البلد بظرف عدة ساعات يدخل في كوع الكحالة بمعناه الذي يؤشر إلى رمزية الحرب الأهلية بدل أن يؤشر إلى رمزيته كطريق وصل استراتيجي بين لبنان مع سورية وبالتالي مع بعده البري العربي!!.
وثاني هذه الأسئلة المطلوب الإجابة عنها تنطلق من ضرورة أن يعترف كل من حزب الله وخصومه بأمر هام جداً وهو أن على الطرفين مراعاة “خطورة التوقيت” الذي يمر به لبنان وتمر به كل المنطقة.
إن ثلاثة أرباع التصريحات الرسمية واللاانفعالية التي عقبت على أحداث “عين الحلوة” ومن ثم “كوع الكحالة”؛ لفتت إلى خطورة التوقيت؛ بمعنى أن أخطر ما في هذين الحدثين هو التوقيت اللذين حصلا به..
وبشيء من التفصيل يمكن القول في هذا المجال، أن اشتباك عين الحلوة الأخير، كان يمكن اعتباره واحداً من جولات العنف المعتاد حدوثها داخل المخيم منذ عقود.. ولكن ما جعل هذه الجولة الأخيرة من الاشتباك، ليست كمثل غيرها لجهة الأخطار المترتبة عنها سواء على داخل المخيم وخارجه؛ هو أنها تجري في توقيت داخلي لبناني، وتوقيت داخلي فلسطيني، وتوقيت إقليمي ودولي، يعتبر غاية في الخطورة، ومن سماته الأساسية هو قابليته لتوسع رقعة أي حريق عسكري يحدث في المنطقة.
أما بالنسبة لحادثة كوع الكحالة فإن حدوثه في التوقيت الحالي الخطر؛ هو الذي جعل الكثيرين يعتبرونه قطوعاً خطراً.. وهذا التوصيف دقيق؛ ولكنه يصبح غير دقيق عندما يقال أنه قطوع خطر مر على لبنان وانتهى؛ بل المطلوب القول أنه قطوع خطر يتوجب أقله معالجة نتائجه، إذا كان لا يمكن في هذه المرحلة معالجة أسبابه..
ولا يختلف إثنان في لبنان بغض النظر عن موقفهما السياسي؛ على أن البلد يمر بظروف داخلية صعبة في توقيت سياسي عام أصعب.. وبالتالي فإن أزمة لبنان مركبة والداخلي فيها متداخل مع الخارجي والعكس صحيح.. وكل هذا يحتم إدراك أن الحلول لأسباب الأزمة ليست داخلية ولكن تقديم حلول أو مسكنات لنتائج الأزمة هي مسؤولية داخلية قبل أن تكون مسؤولية خارجية.. مثلاً يستطيع حزب الله أن يتفاهم مع الجيش اللبناني على حركته العسكرية داخل لبنان؛ في حال إذا كان من غير ممكن في هذه المرحلة أن يتفاهم مع الدولة على قرار السلم والحرب؛ وبالمقابل يستطيع معارضو سلاح حزب الله القبول بهذا الحل، لأنه يقدم لهم إنجاز بسط سيادة الدولة على حركة حزب الله العسكرية داخل لبنان، طالما أنه لأسباب داخلية وخارجية لا يمكن الآن بسط سيادة الدولة على كل ما هو سيادي في البلد..
الفكرة الأساسية هنا، تقع في أنه يجب المبادرة لإنتاج معالجات لنتائج الأزمة، كون سياسة غض الطرف عن تراكم نتائج الأزمة، وتركها هذه النتائج من دون معالجات، ستؤدي حتماً وبالتأكيد إلى انفجار مشاكل البلد المتراكمة..
إن لبنان بوضعه الراهن، وخاصة لجهة ممارسة سلوك الشلل السياسي وعدم العمق السياسي، تجاه ما يواجهه البلد من أزمات خطرة متلاحقة، إنما يأخذ نفسه إلى لحظة سياسية وأمنية تشبه مرحلة النصف الثاني من ستينات القرن السابق الذي مهدت أحداثها إلى اندلاع الحرب الأهلية.
ومن الصعب في هذه العجالة عقد مقاربة مفصلة لإظهار أوجه الشبه الخطرة بين مقدمات حرب ال٧٥ وبين المقدمات الحالية التي قد تقود البلد لتكرار تجربة حرب ال٧٥.
.. ولكن يكفي في هذا المجال الإشارة إلى أنه في النصف الثاني من ستينات القرن الماضي نمت بذور الحرب الأهلية تحت ستار كاذب من نهوض الطفرة الاقتصادية والمالية في لبنان.. واليوم ثمة من يكرر تصديق الظواهر الكاذبة التي تقول أن البلد بخير مستدلين على ذلك بالطفرة الكاذبة التي تشهدها فنادق ومقاهي في لبنان..
والواقع الذي لا يتم الالتفات إليه هو أن مؤشرات الخطر الحقيقي، موجودة في الجزء الصادق من التعبيرات عن حال البلد؛ وهذا الجزء الصادق موجود في البيوت الموصدة أبوابها على فقر مدقع وجوع مرعب، وفي احتقان متبادل بين الغرف الداخلية للطوائف..
قد يكون المطلوب – وعلى نحو سريع – تصحيح الرؤية، وأيضاً المبادرة بالحد الأدنى لمعالجة نتائج الأزمة، إذا كان لا يمكن لأسباب موضوعية معالجة أسبابها..