يشتبه الغرب ومعه قسم واسع من محلّليه بأنّ الكرملين يقف خلف إسقاط طائرة زعيم “فاغنر” يفغيني بريغوجين. تردّ روسيا بأنّ هذه التحليلات “كذبة بحتة” وتدعو إلى انتظار نتائج التحقيقات.
بينما يصعب معرفة ماذا حصل لطائرته التي تحطّمت، ثمّة خيوط يستحيل تجاهلها: إعلان الرئيس الروسيّ سابقاً عدم مسامحته للخيانة، وإقالة الجنرال المقرّب من بريغوجين سيرغي سوروفيكين من قيادة القوات الجوفضائيّة خلال اليوم نفسه الذي قُتل فيه زعيم “فاغنر”.
توقيت تحطّم الطائرة معبّر أيضاً: 23 آب (أغسطس)، أي بعد شهرين بالضبط على إعلان الأخير تمرّده في 23 حزيران (يونيو) تحت عنوان “مسيرة العدالة”. حتى مكان التحطّم مثير للريبة. لو سقطت طائرة بريغوجين، أو قُتل في حادث غريب وهو في إفريقيا مثلاً، فسيترك ذلك شكوكاً أكبر حول كيفيّة وفاته أو حول وفاته أساساً، كما كتب توم نيكولز في مجلّة “أتلانتيك”. إنّها رسالة إلى الأوليغارشيّين الذين يستقلّون الطائرات بكثرة في موسكو كما أضاف.
بالفعل، سرت أنباء عن أنّ بريغوجين زيّف وفاته عبر سقوط طائرة في الكونغو سنة 2019. في جميع الأحوال، تجعل هذه العلامات من فرضيّة “الانتقام” فرضيّة معقولة جدّاً. بحسب “رويترز”، من غير المتوقّع أن تزعزع نتيجة التحقيقات الروسيّة الاعتقاد السائد على نطاق واسع ومفاده أنّ بريغوجين قُتل انتقاماً للتمرّد الذي شنّه.
أكثر من عصفور بحجر واحد
تساءل البعض عن سبب ترك بوتين بريغوجين حرّاً لمدّة شهرين قبل التخلّص منه بل حتى عن سبب السماح بحضوره على هامش القمّة الإفريقيّة التي استضافتها روسيا مؤخّراً بدلاً من ضربه مع مجموعته بشكل مباشر. قد تتمثّل الإجابة في شقّين. الأوّل أنّ مواجهة عسكريّة مباشرة مع “فاغنر” ستكون مكلفة للطرفين وللمجتمع الروسيّ إلى جانب كلفتها على الحرب في أوكرانيا. ولم يكن الجيش على الأرجح مستعدّاً لمعركة كهذه بسبب انشغاله في تلك الحرب. توغّلُ فرقتين عسكريّتين معارضتين لموسكو في منطقة بلغورود لأكثر من مرّة هذه السنة دليل على ذلك. الشقّ الثاني يتعلّق بـ”فاعليّة” الأسلوب.
قتلُ بريغوجين بشكل مباشر بعد انتهاء عمليّة التمرّد لم يكن ليختلف كثيراً من حيث النتائج على موسكو. أمكن تحقيق “الانتقام” بتداعيات أقلّ عبر استغلال عامل الزمن. بعد الاتّفاق الأوّليّ على إنهاء التمرّد، عمدت روسيا إلى تفكيك “فاغنر” بطريقة متدرّجة وإضعاف عمليّاتها. الأهمّ، يبدو أنّ موسكو كانت مصمّمة على ضرب بريغوجين، وأيّ خليفة محتمل له، أكان الضابط الذي أسّس فعليّاً المجموعة دميتري أوتكين، أو الشخصيّة الأبرز بعد بريغوجين، وهو المدير الماليّ والتنفيذيّ للمجموعة فيكتور شيكالوف (قضى أيضاً في التحطّم).
بالفعل، أسقط “الانتقام المؤجّل” عدّة عصافير بضربة واحدة. تلقّت “فاغنر” ضربة موجعة – إن لم تكن قاضية – على مستوى القيادة، كما على مستوى الأفراد الذين تبعثروا بعد التمرّد، مع حديث عن أنّ “فاغنر” عانت في الأسابيع الأخيرة من نقص في التمويل بفعل إجراءات ما بعد التمرّد.
أيّ حصان سيختارون؟
من الأسئلة التي شاعت أيضاً عقب تحطّم الطائرة هو كيف يمكن لبريغوجين أن يتنقّل مع أوتكين وشيكالوف معاً بالرغم من الأخطار المحتملة. يكمن الجواب مجدّداً في التكتيك نفسه: إنّ إعطاء الحرّيّة لبريغوجين كي يتحرّك بأريحيّة داخل روسيا دفعَه ربّما إلى الاعتقاد بأنّه أكبر من أن يُستغنى عنه. خفّض ذلك على الأرجح “الغريزة الدفاعيّة” لبريغوجين وفريقه فدفعا الثمن. يَظهر أيضاً أنّ المخطّطين المفترضين لإسقاط الطائرة كانوا على معرفة في غاية الدقّة بتحرّكات قادة “فاغنر”. يتعزّز ذلك مع الأنباء التي قالت إنّ طائرة ثانية لبريغوجين كانت تحلّق في الوقت نفسه (على مسار معاكس) قبل أن تحطّ بأمان في موسكو.
بعد مقتل بريغوجين، أظهرت لقطات فيديو مقاتلين من “فاغنر” يتعهّدون بالانتقام. وقال حساب تابع للمجموعة على “تلغرام” إنّ المقاتلين يعدّون لـ”مسيرة عدالة ثانية تحو موسكو”. لكنّ إمكانيّة تحقيق ذلك ضئيلة ليس فقط بفعل الضعف الهيكليّ للمجموعة. يذكّر البعض بما كان يقوله الزعيم الأسبق لتنظيم “القاعدة” أسامة بن لادن عن أنّ الناس “سيختارون دوماً الحصان القويّ على الحصان الضعيف”. كان ذلك جليّاً حين انهارت القوّات الأفغانيّة مع الانسحاب الفوضويّ من أفغانستان واختارت إلى حدّ كبير عدم خوض حرب مع “طالبان”. في الوقت الحاليّ على الأقلّ، لا جدال حول أنّ الجيش الروسيّ هو الحصان القويّ. ربّما يخشى عناصر “فاغنر” الانضمام إلى القوّات النظاميّة بسبب إجراءات انتقاميّة محتملة ضدّهم، لكنّ الراجح أيضاً هو أنّهم لن يختاروا الحصان الضعيف، أي موالاة قيادة حديثة يمكن أن تبرز في المجموعة وتدعو إلى “مسيرة عدالة” أخرى. علماً أنّ ثمّة احتمالاً في أن تختار موسكو زعيماً آخر للمجموعة مقرّباً من وزارة الدفاع كان قد انشقّ عن “فاغنر” سابقاً ويدعى أندريه تروشيف.
“المسمار الأخير” في نعشها
في حديث إلى “فورين أفيرز”، تستبعد الباحثة البارزة في “مؤسّسة كارنيغي” تاتيانا ستانوفايا أن يصف مؤيّدو بريغوجين الرجل بالـ”شهيد” بعد مقتله لأنّه كان رجلاً غاضباً يصعب التعامل معه، كما تستبعد أيضاً أن يكمل أتباعه نشاطاته بسبب الخوف. تحليلٌ يشاطرها إيّاه جوشوا يافا في مجلّة “نيويوركر”. بحسب رأيه، لم ينجح بريغوجين بتحويل نفسه إلى تيّار متجانس، كما أنّ القادة المتبقّين في “فاغنر” سيكونون قد فهموا الدرس على الأرجح. ويقول له المقاتل السابق في المجموعة مارات غابيلودين الذي لا يزال يحتفظ ببعض الروابط مع مقاتلي “فاغنر” إنّهم مرتبكون. ولا يعتقد أنّهم سيشنّون عمليّات انتقاميّة؛ فهم “يخدمون من يدفع لهم”.
ربّما يشنّ بعض مقاتلي “فاغنر” عمليّات انتقاميّة محدودة عبر الانضمام إلى مجموعات مسلّحة أخرى مثل “فيلق حرّيّة روسيا”. لكنّ “فاغنر” القديمة قد تغيّرت إلى الأبد. بحسب جيسون بوش، محلّل بارز في “مجموعة أوراسيا”، باتت “فاغنر” بحكم المنتهية. “هذا أشبه بالمسمار الأخير في النعش”، يقول لشبكة “سي أن بي سي”. ويضيف: “لا أعتقد أنّه من العمليّ الآن بالنسبة إليهم أن يتمرّدوا ضدّ هذا. لقد خسروها (المعركة). مهما كانت أيّ فرصة لديهم لشنّ شكل من أشكال التمرّد، فقد قرّروا إهدارها…”
السؤال الذي لم يُطرح
إذا كان الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين يعتمد “النفس الطويل” مع الغرب للفوز في أوكرانيا فلماذا لا يلجأ إلى اللعبة نفسها مع بريغوجين؟ ربّما كان هذا السؤال الذي غاب عن ذهن بعض من انتظر أن ينتقم بوتين من “طبّاخه” السابق بعد ساعات قليلة على التمرّد. الأهمّ، إنّه السؤال المحوريّ الذي كان على بريغوجين أن يطرحه على نفسه لكنّه لم يفعل، أو على الأقلّ، لم يعالجه بالجدّيّة الكافية.
يبدو أنّ بوتين تخلّص مباشرة، أو عن طريق “القدر”، من أحد الأخطار المحدقة بسلطته. هل هذا يمنع نخباً روسيّة أخرى من شنّ انقلاب في المستقبل؟ هذا بحثٌ آخر.