“نداء الوطن”:
منذ سنوات، تقيم بجعة بيضاء في صيدا بعدما أصبحت لاجئة قسراً، إذ بُتر جناحها الأيمن جرّاء إطلاق النار عليها وهي تعبر ضمن سرب من البجع فوق المدينة، أثناء موسم هجرتها السنوية من المناطق الباردة إلى الأكثر دفئاً وأمناً.
حكاية البجعة اللاجئة بدأت قبل 11 عاماً وتحديداً في العام 2012، حين كانت تُحلّق على علوّ منخفض مع سرب فوق سماء صيدا، فتعرّضت لإطلاق نار، لكنها نجت من الموت وسقطت على الأرض قرب ميناء الصيادين، ووجدت من يداوي جراحها حيث قدّم الصيادون العلاج اللازم لها، وبعد بتر أحد جناحيها باتت «مهيضة الجناح» ولم تعد تقوى على التحليق فتحوّلت لاجئة قسراً.
ورغم الحظ العاثر لهذه البجعة في الالتحاق بسربها أو العودة إلى موطنها الأصلي، إلا أنها وجدت الرعاية والاهتمام الكافيين من حسن بشير «أبو صالح»، الذي يملك محلاً قبالة مرفأ المدينة ومينائها البحري يشبه السوق الشعبية لبيع السمك، وهو يوفّر لها المأكل والمشرب حتى اليوم.
يقول بشير لـ»نداء الوطن»: «سقوط البجعة على الأرض وبقاؤها حيّة فاجآ الجميع، إذ جرت العادة أن تنجو من إطلاق النار لتواصل مسيرها في سربها أو تسقط ميتة، لكن إصابتها في جناحها الأيمن منعتها من إكمال التحليق، فوصلت إلى هنا مصابة وجاء بها أحد الصيادين وتمّت معالجتها من دون أن تستطيع الطيران مجدّداً».
ويوضح «أنّ هذا النوع من البجع يُسمّى «أبو جراب» – Pelecanus، يعيش في البحر وليس في النهر كما هو متعارف عليه، ويعتاش على السمك فقط، وتشبه الجمل في طريقة أكلها، إذ تبلع طعامها وتجترّ، وتبقى أياماً من دونه، لكنها غير مؤذية ومحبوبة وكثر من الناس يعطفون عليها».
لا يخفي بشير «أن الأيام الأولى وحتى الأسابيع كانت صعبة عليها، لجوء قسري – غربة ووحدة، مصحوبة بوجع دائم إلى أن تماثلت للشفاء. كنت أقيّدها بحبل رفيع كي لا تهرب وتضلّ طريقها وتتعرّض للأذى، أما اليوم فباتت تقف حرّة أمام مسمكتي، تراقب حركة الناس وتتفاعل معهم، وأحياناً تذهب الى البحر تسبح وتأكل السمك وتنظّف نفسها وتعود لوحدها».
وحرص بشير على إطلاق اسم «كركر» على البجعة، وعلى تخصيص غرفة صغيرة لها قرب المسمكة، ويقول «اللقب طلع عليها وحده، وهو سهل على اللسان، صار بيننا خبز وملح رغم أنّ إشباعها بات مكلفاً اليوم في ظل الأزمة الاقتصادية والمعيشية اللبنانية. أصبحت تستوقف العابرين على الكورنيش البحري، وقاصدي سوق السمك والمقاهي الشعبية المجاورة، وكثيراً ما يسألون عن سرّ وجودها، وعندما يعرفون حكايتها، يسارعون إلى التعبير عن التضامن معها وممازحتها والتقاط الصور معها تارة وبتقديم بعض الأسماك لها طوراً».
بعد هذه السنوات، بدأت «كركر» تتعافى وتطير لمسافة قليلة أقصاها ما بين الخمسة والعشرين متراً، وفي هذا الحرّ الشديد في آب، لا يتلكّأ بشير في تخفيف حدّته عنها، يجلب خرطوماً ويبدأ بدغدغة جسدها بالمياه الباردة أمام جميع الناس. ويؤكّد «كلما اقترب شهر أيلول، ازداد شعوري بالأسى والحزن، أشاهدها بين الحين والآخر تحدّق عالياً، عيناها مفتوحتان على السماء وكأنّي بها تنتظر سربها لتعود معه كما كان الحال سابقاً».