خاص الهديل:
ليست هذه هي المرة الأولى التي تجري فيها محاولات أميركية وإسرائيلية، بمناسبة بحث التجديد لليونيفيل في جنوب لبنان، لتغيير “قواعد الاشتباك” للقبعات الزرق في منطقة القرار ١٧٠١ جنوب خط الليطاني؛ ولكن في كل مرة كان ينتهي الأمر بالإبقاء على الصيغة القائمة..
.. وخلال معظم نقاشات التجديد السابقة في مجلس الأمن لقوات اليونيفيل في لبنان، كان الإسرائيليون بدعم أميركي يطرحون إضافة تعديلات على قواعد الاشتباك لليونيفيل من نوع عدم تنسيق قواتها مع الجيش اللبناني خلال قيامها بدوريات في منطقة مهمتها جنوب خط الليطاني، والسماح لها بدخول المناطق المأهولة بالسكان للبحث عن الأسلحة التابعة لحزب الله، الخ..
.. والجديد هذه المرة لا يقع في إعادة طرح هذه التعديلات الإسرائيلية، ولا يقع في دعم واشنطن وباريس ولندن وسويسرا لها، بل يكمن في توقيت طرح هذه التعديلات.. فالخطورة لا تتمثل بإمكانية فرض هذه التعديلات على لبنان، ولا بمدى قدرة وزير خارجية لبنان على الصمود في نيويورك، بل تكمن الخطورة بالمرامي التي تقف وراء طرح هذه التعديلات في هذا الوقت، مع الحرص على تسليط هذا الكم من الضوء الإعلامي والدبلوماسي على هذا الموضوع..
.. وتكمن الخطورة أيضاً بالتوقيت المصحوب بتطورات حساسة تحدث في العالم والمنطقة؛ ما يستدعي عدم إدارة الظهر لما يحدث في نيويورك، أو التعامل معه باستخفاف انفعالي..
ومن بين هذه التطورات الموقف الفرنسي الذي يتعامل مع ملف التجديد لليونيفيل هذه المرة، من زاوية أنه جزء من حرب الإليزيه للحفاظ على آخر نقطة لتواجدها في الضفة القديمة من المتوسط، وذلك في ضوء ما يتعرض له تواجدها في النيجر من محاولات جدية لإخراج نفوذها من هناك كمقدمة لإخراج باريس من كل أفريقيا..
إن باريس في هذه اللحظة هي في موقع الهجوم للدفاع عن ما تبقى من المناطق القليلة في العالم التي لا يزال يوجد مصالح لها فيها.. وبمثلما أن ماكرون يوجه دبلوماسيته في النيجر لأن يتحصن سفيره داخل سفارة فرنسا هناك، فهو في مجلس الأمن في نيويورك يوجه المبعوث الفرنسي في الأمم المتحدة ليبدي أعلى درجات التشدد للدفاع عن امتيازات ووجود اليونيفيل في لبنان.. ويبدو ماكرون في هذه اللحظة أكثر استيعاباً لمعنى مصطلح “اليونيفيل الأوروبي” على الحدود اللبنانية مع إسرائيل، وذلك على اعتبار أن بنية اليونيفيل في جنوب لبنان أوروبية، ولذلك ينظر إليها على أنها تشكل آخر نقطة نفوذ لفرنسا ولأوروبا في الشرق الأوسط، وذلك بعد خروج باريس من سورية والعراق وليبيا، الخ…
.. وواقع أن باريس تشهد انقلاب النيجر على وجودها وعلى مصالحها هناك وفي كل أفريقيا، دفعها لأن تصبح حساسة وميالة للتشدد في أي ملف يخص تواجدها في مستعمراتها القديمة..
ويعتبر ماكرون أن تواجد فرنسا في لبنان عبر دورها الهام في اليونيفيل في الجنوب، هو بمثابة إحدى ساحات الحرب الدبلوماسية التي تخوضها الإليزيه في هذه المرحلة للحفاظ على مصالح فرنسا الخارجية.
وليس بعيداً عن هذه الخلفيات، يبرز عامل تصويب ماكرون في هذه اللحظة على التدخل الإيراني عبر حزب الله لهز الاستقرار في لبنان.. وهذا المصطلح مستجد في خطاب ماكرون الذي كان قبل فترة يتبنى خطابه مرشح حزب الله؛ والذي كان بنفس الوقت يدعو إلى ضم إيران إلى الخماسية كي تصبح طبخة إنهاء الشغور الرئاسي ممكنة..
والواقع أن كل القصة حالياً تقع في أن ماكرون متوجس من أن تتابع مشاهد إخراجه من ما تبقى من الدول القليلة حول العالم التي لا يزال يتواجد فيها نفوذ لباريس: فماكرون يلاحظ أن بوتين نجح في تنفيذ إنزال روسي خلف خطوط تواجده في النيجر، ومن هناك يقول لسفيره المحاصر: كش ملك ليس فقط من النيجر بل من أفريقيا؛ فيما باريس تتأكد مرة جديدة أن واشنطن تستمر، كما كانت على مدى الأعوام الماضية، بعدم إظهار أي دعم للنفوذ الفرنسي في أفريقيا؛ والغريب – من منظار الإليزيه طبعاً – أن واشنطن لا تزال على هذا الموقف غير الدعم لباريس في أفريقيا، رغم أن عدو فرنسا هذه المرة في أفريقيا، هو بوتين نفسه عدو أميركا في أوكرانيا وأوروبا..
وفي لبنان لم يلمس ماكرون دعماً أميركياً ملموساً لمبادرته؛ لا أيام ترامب الذي لا يحب أوروبا ولا أيام بايدن الذي وعد بالانفتاح على أوروبا؛ فخلال فترة ترامب اتبعت واشنطن سياسة إحراج باريس في لبنان، وكان واضحاً أن ترامب يتبع سياسته: دعوه (أي ماكرون) يفشل، ودعونا نشاهده وهو يضرب وجهه بالزجاج اللبناني.. ورغم أن مجيء بايدن كان يفترض أن يشكل تبديلاً إيجابياً في تعاون البيت الأبيض مع مبادرة ماكرون في لبنان، إلا أنه لغاية الآن، يتضح أن الدعم لفظي، وأن واشنطن تسير لبنانياً وفق أجندة غامضة لكل باقي أعضاء نادي اللجنة الخماسية من أجل لبنان..
وإذا كان بوتين يقول: كش ملك لفرنسا من النيجر ومن ثم من أفريقيا، من دون أن يجد ذلك رد فعل عملي داعم لباريس من قبل واشنطن؛ فإن ماكرون يصبح لديه مبرراته كي يتوجس من مجيء لحظة يقول له فيها الإيراني المتواجد على حدود البر مع إسرائيل وعلى حدود الغاز مع توتال؛ “كش ملك من لبنان”، وذلك من دون أن تلقى باريس دعم عملي وليس لفظي من واشنطن..
بعد حادثة العاقبية التي أودت بحياة جندي من اليونيفيل الأوروبي في لبنان، بات هناك سؤال عن ما إذا كان لا يزال هناك قناعة لدى الغرب (قبل الدول الأخرى) بجدوى الدفاع عن استمرار تواجد الدور الأوروبي الأزرق (اليونيفيل) في جنوب لبنان؟؟..
.. وأيضاً بعد ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل برز سؤال عن جدوى استمرار بقاء اليونيفيل الأزرق بمهمة حماية معادلة “وقف الاعتداء بين إسرائيل ولبنان” التي نص عليها القرار ١٧٠١؟؟..
الخلاصة في هذا المجال تفيد بأن هوكشتاين في ملفي ترسيم الحدود البحري السابق، وترسيم الحدود البري المقبل، يحمل حقيبة الحل الأميركي في لبنان، وليس حقيبة الحل الأوروبي في لبنان.. وتبدو هذه اللحظة شبيهة بمرحلة عشية اتفاق الطائف، وليست شبيهة بعشية حرب الـ٢٠٠٦ كما قال أمس مسؤول إسرائيلي كبير: فعشية الطائف كان هناك سباق بين حلين إثنين دوليين للأزمة اللبنانية: الحل الأوروبي ومرشحه الرئيس رينيه معوض بعد سحب باريس لميشال عون من التداول؛ والحل الأميركي وفق معادلاته حينها التي باتت معروفة.. وبالنهاية سقط معوض شهيداً؛ وجاء الحل الأميركي على ظهر حصان أبيض.. وما يجدر توقعه اليوم هو أن يقود هوكشتاين عربة توتال في البلوك ٩، وليس الإليزيه!!.. أضف أن “المنطقة الأوروبية الزرقاء في منطقة جنوب خط الليطاني، باتت مرشحة لأن تصبح منطقة خطوط تقاطع إيراني أميركي، فيما لو كان هناك فعلياً قرار دولي كبير بإيجاد حل للوضع في لبنان يضمن “سلام تدفق غاز المشرق إلى أوروبا”، بمقابل إبعاد لبنان عن الالتحاق بأتون عودة الحرب إلى سورية!!.