إسرائيل تكشف ملفات عملاء الموساد..في لبنان وسوريا والمغرب
ليس مألوفاً أن تعرض الصحافة العبرية وجهة نظر أبناء أبرز جواسيس جهاز “الموساد” بشأن حكايتهم وتعقب ما عايشوه أطفالاً ثم كباراً مع والدهم الجاسوس أو والدتهم الجاسوسة، في خضم مهمات غامضة، وأكاذيب وسرية لازمت أدوارهم الأمنية والأبوية.
أكاذيب.. وأسرار!
صحيفة “يديعوت أحرونوت” الإسرائيلية رصدت حكايات جواسيس الموساد بلسان أبنائهم الذين أصبحوا أكبر سناً الآن، تحت عنوان “أطفال الموساد يتحدثون عن الحياة في ظل الأكاذيب”، وهو ما عكس وجهة نظر الأبناء على نحو مغاير لدعاية الاحتلال الرسمية التي حاولت إظهارهم بصورة “الأبطال الخارقين”، بينما لا يراهُم معظم الأبناء كذلك بالضرورة، بقدر تأكيدهم أنهم “دفعوا ثمنا نفسيا وحياتيا” نتيجة ذلك.
وفي حين يستعد سبعة من أبناء عملاء الموساد الأكثر رتبة في مجالهم، لمشاركة قصصهم في مهرجان الشهر المقبل، استبقت “يديعوت أحرونوت” المناسبة المرتقبة بنشر قصص بعضهم.
مهمات غامضة نيابة عن والدَين يعيشان قصة لا تُكشف، ووالد يختفي لأشهر في كل مرة.. هي محطات رواها “أطفال عملاء الموساد” في سياق ما اعتبروها أكاذيب أُجبروا على سماعها وقولها، وأسرار انكشفت بعد سنوات فقط، وعن “حنين إلى والد جاسوس أمضى معظم وقته خلف خطوط العدو”، على حدّ قولهم.
الجاسوسة شولاميت في لبنان
وتبرز قصة الجاسوسة الإسرائيلية شولاميت كشيك كوهين من أصل لبناني، إذ أدت مهمة أمنية من نهاية أربعينيات القرن الماضي حتى مطلع الستينيات، جمعت خلالها معلومات استخباراتية من لبنان وسوريا ساعدت الموساد في استقدام يهود لبنان ودول عربية أخرى إلى إسرائيل.
وبعد انكشاف أمرها حكمت عليها السلطات اللبنانية بالإعدام، ثم خُفف الحكم إلى السجن 20 عاما، حتى أُطلق سراحها ضمن تبادل الأسرى بعد حرب حزيران 1967، وتوفيت عام 2017 عن عمر ناهز 100 عام.
شولاميت
الدبلوماسي الإسرائيلي الأسبق يتسحق ليفانون هو إبن هذه الجاسوسة، وقد عمل سفيراً لإسرائيل لدى مصر بالماضي، يروى قصة والدته، قائلاً: “بالنسبة لي، كانت أما عادية، ولم أمتلك أي فكرة عن أنشطتها السرية في البداية”، حينما كانت تسافر إلى إسرائيل ليلا لتتلقى التعليمات، ثم تعود باكراً.
لكن ليفانون في عمر 15 عاماً أصبح مساعداً لوالدته في مهمتها الأمنية، عبر تكليفه بالتأكد من صعود أطفال يهود جُلبوا من سوريا إلى بيروت، إلى الحافلة ومن ثم انطلاقها بـ”أمان”.. وكشف ليفانون أن والدته حرصت على عدم بقاء يهود سوريا القادمين إلى بيروت أكثر من ليلة واحدة؛ خشية أن تلاحظهم السلطات اللبنانية. غير أنّ المخابرات اللبنانية استجوبته في ما بعد بشأن دوره في القضية بعد اعتقال والدته.
ودأب ليفانون على تسليم رسائل سرية من والدته إلى اليهود في لبنان في سياق عملية تهريبهم إلى دولة الاحتلال، وهي مهمة أشعرته أنه “جيمس بوند”.. مؤكداً أن محيط منزلهم كان يشهد حركة نشطة لأشخاص مجهولين، بينهم مهربون أمنيون جاؤوا من دولة الاحتلال إلى بلد الأرز لإتمام المهمة.
اللافت أن والدته الجاسوسة “شولاميت كوهين” كانت تتلقى الرسائل المشفرة والتعليمات من الموساد عبر برنامج على الإذاعة الإسرائيلية استمعت إليه كل جمعة، بحسب ما كشفه ليفانون. وعندما سُمح للعائلة اليهودية بمغادرة لبنان، سافر ليفانون رفقة والده وإخوته عبر قبرص، في حين نُقلت والدته الجاسوسة إلى الحدود بين لبنان وفلسطين المحتلة.
ابنة الجاسوس كوهين.. “ما بعد الصدمة”
وفي حين أبدى ليفانون “فخره بوالدته” بدت الستينية صوفي كوهين بعيدة عن مسألة الفخر من عدمه حينما سردت حكايتها مع والدها الجاسوس إيلي كوهين الذي أعدمته السلطات السورية قبل ثمانية وخمسين عاماً إثر انكشاف أمره، وحينها بلغت صوفي عمر 4 سنوات ونيّف. وقالت صوفي إنها تكره الأسرار، وتحاول ألا تحتفظ بأي منها، مبينة أن “التجسس مهنة قاسية، ويجعل الجميع في حالة ما بعد الصدمة.. أنت تكذب بانتظام، وتعيش بعيدا عن عائلتك، ولا يمكنك أن تكون نفسك الحقيقي؛ لأنك تدمر حياة الآخرين”. وبدت نفسية صوفي المركّبة دافعا رئيسيا لتصبح طبيبة نفسية لاحقاً.
من وجهة نظر صوفي كوهين، ثمة تعقيد كامن وراء عالم الاستخبارات يتقاسمه معها أبناء عملاء الموساد الآخرون في سردهم لقصصهم، إذ شدد معظمهم على عدم علمهم بما فعله آباؤهم إلا بعد سنوات..”ويبقى هؤلاء الآباء في الظل، وتتأثر الأسرة بأكملها”، تقول صوفي.
الجاسوس إيلي كوهين جاء إلى إسرائيل بعد سنوات قضاها في أميركا الجنوبية، وعمل جاسوساً في سوريا بهوية “رجل أعمال سوري” يُدعى كامل أمين ثابت، وأصبح صديقاً لكبار الشخصيات في الحكومة السورية، ما مكّنه من تقديم معلومات استخباراتية للموساد. لكن ابنته صوفي التي لا تعلم مكان دفن والدها تقول إنها اكتشفت بنفسها أن والدها جاسوس وقد مات، من خلال مراسم تذكارية رسمية لوالدها في السنوات اللاحقة.
كوهين.. “مليء بالأدرينالين”
واستذكرت صوفي صوراً متناثرة لوالدها في كل مرة يعود فيها من مهمته الأمنية، فتقول إنه “كان يصعب عليها كطفلة أن تثق به في كل مرة يأتي فيها، وكان متوترا ومليئا بالأدرينالين”.. وقبل أن يغادر كوهين في مهمته كان يكتب بطاقات بريدية لعائلته، ليسلمها الموساد بين الحين والآخر. ولم يهمها توصيف إسرائيل لوالدها بـ”البطل”، بقدر ما كان يعنيها أن “الأبطال لا يموتون”.
صوفي كطبيبة نفسية اكتشفت صدفة أن أحد مرضاها خدم في الموساد، ما جعل العلاقة بينهما مختلفة؛ لكونه يشبه “ألمها”.
غموض.. وانتحار!
تقفز “يديعوت أحرونوت” من قصة إلى أخرى، فتروي أيضاً حكاية عنات ريمشون (68 عاما)، ابنة يوسف ياهالوم، شغل رئيس عمليات الموساد في المغرب لنقل اليهود من هناك إلى فلسطين المحتلة، ثم ذهب إلى باريس عام 1965 في مهمة لمراقبة النازيين الجدد في ألمانيا. وتقول ياهالوم إن العائلة لم تعلم وقتها أن والدها جاسوس للموساد، واعتادت أن تجيب كل من يسأل عنه: “إنه في الخارج”.
الجاسوس مئير ماكس بينيث هو الآخر كان له نصيب في سلسلة قصص “أبناء جواسيس الموساد”، فهو انتحر داخل سجن مصري عام 1954 بعد اعتقاله في عمر 37 عاماً.
إذن، هي قصص تقتفي آثار جواسيس الموساد بعد انتهاء مهماتهم، ومرور عقود على إعدامهم أو انتحارهم أو وفاتهم الطبيعية، لكنها تكشف بعض أساليب جهاز المخابرات الإسرائيلية، وعوالم نفسية على الجاسوس وعائلته.. مع العلم، أن الموساد يجند كذلك عملاء محليين من مناطق متعددة، أو يستعين بجماعات المافيا لتنفيذ مهام عابرة للحدود.