خاص الهديل:
تبدو الصورة من منظار أي متابع جدي للأحداث في لبنان، أنها سوريالية بامتياز، وهذا التوصيف بات هو الغالب لبلد قال قائد جيشه العماد جوزاف عون أنه يواجه مشكلة ديموغرافية وجودية؛ وكان سبق لمسؤولين أوروبيين أن قالوا أن الدولة فيه تواجه أزمة انحلال..
وصورة المشهد اللبناني خلال الفترة الراهنة؛ وعلى مدى أسبوعين مستمرين، توزعت بين ما يريده ثلاث شخصيات ليس بينهم شخصية واحدة لبنانية:
.. الشخصية الأولى هي آموس هوكشتاين مبعوث الرئيس بايدن لشؤون الطاقة، والذي بات يمكن تسميته ب”صانع جمهورية الغاز اللبنانية” أو “صانع استقلال لبنان الصغير البحري”..
الفكرة هنا هي أن هوكشتاين لم يعد مجرد صاحب مهمة أميركية صغيرة في لبنان؛ بل أظهرته زياراته الأخيرة وتصريحات سفارة أميركا في لبنان عن دوره، بأنه صاحب مهمة تاريخية أميركية في لبنان وللبنان..
تجدر الإشارة هنا إلى أن سفارة عوكر تسمي اتفاق هوكشتاين البحري بين بيروت وتل أبيب، بأنه تاريخي، وليس فقط مجرد اتفاق مهم..
والمقصود هنا هو أن هوكشتاين كونه ينفذ الدور الأميركي التاريخي في لبنان، فهو بات له بخصوص مستقبل لبنان الحديث أو الجديد، نفس المنزلة التي كانت للجنرال الفرنسي هنري غورو الذي أرسلته باريس لينفذ مهمتها التاريخية في لبنان عبر ترسيم حدود “جمهورية لبنان الكبير” عام ١٩٢٠، وإقامة “الجمهورية اللبنانية الثانية”، على اعتبار أن لبنان الصغير كان الجمهورية الأولى…
وكل تصريحات واشنطن وتصرفات هوكشتاين توحي ان لبنان تولد جمهوريته الثالثة على يدي القابلة الأميركية هوكشتاين، وذلك تحت عنوان “جمهورية جزيرة الغاز الثالثة” التي من مواصفاتها، أولاً أن تتكيف جمهورية الغاز اللبنانية الثالثة مع مشروع الغاز الأميركي في المتوسط؛ وثانياً أن تتكيف مع مشروع أمن الغاز في المتوسط؛ وثالثاً أن تتكامل، أو أن لا تتعارض مع مشروع إيصال كل غاز المتوسط إلى أوروبا.
والواقع أن واشنطن على خلفية الحرب في أوكرانيا، سيكون لديها لسنوات طويلة مقبلة، حاجة إستراتيجية لتوجيه غاز العالم باتجاه هدف أساسي وهو أن يكون بديلاً عن حاجة العالم للغاز الروسي.. وعليه فإن كل قطرة غاز في العالم تمثل وستمثل لأميركا هدفاً في استراتيجيتها.. ومن هنا جاء وصف أميركا لاتفاق ترسيم حدود الغاز بين لبنان وإسرائيل بأنه تاريخي..
وفي هذا الإطار يجدر التنبه لملاحظة أساسية وهي أنه في حين أن واشنطن ومن ورائها المجتمع الدولي يفرض على لبنان أن تكون حدوده الشمالية مع سوريا بحالة فوضى ومفتوحة أمام النزوح السوري غير الشرعي؛ فإن أميركا هذه نفسها، ومعها المجتمع الدولي نفسه، يتشدد بموضوع جعل حدود لبنان الخاصة بالغاز مع إسرائيل مرسمة بدقة، وغاية في الانضباط والإستقرار..
.. وما تقدم يعني أمراً أساسياً وهو أن لبنان يشهد على أيدي “غورو الأميركي” هذه المرة أي آموس هوكشتاين، ولادة جمهورية الغاز الثالثة اللبنانية التي لا تملك سوى حدود بحرية، فيما حدودها البرية مسموح لها أن تبقى من دون رقابة عليها لا أمنية ولا جمركية..
وضمن هذه المواصفات لإعلان غورو الأميركي (هوكشتاين)، فإن “جمهورية الغاز اللبنانية الثالثة”، ستصبح جغرافياً أشبه ما تكون بجزيرة قبرص؛ فيما “اليابسة اللبنانية” ستصبح محلقات ديموغرافية بالوضع السوري غير الايل للإستقرار لا في المدى المنظور ولا المتوسط، وبالوضع الفلسطيني غير الآيل للاستقرار أو الحل لا في المدى المنظور ولا البعيد.
.. ويبدو لبنان بفعل “زلزال هوكشتاين التاريخي” ينشطر إلى نصفين إثنين: نصف بحري تحتفل به أميركا وتسميه لبنان التاريخي وتطلق عليه ما يشبه إعلان غورو عن جمهورية لبنان الأولى أو الثانية حسب بعض المؤرخين.. ونصف مهمل يتضمن ما يمكن تسميته “باليابسة اللبنانية” غير المرسمة حدودها والمنحلة الدولة فيها، والتي باتت كل وظيفتها أن تصبح مستودعاً لديموغرافيا نتائج نكبتي المشكلتين الفلسطينية والسورية..
——–
يتبع غداً الحلقة الثانية: من لودريان إلى أبو مازن: “جمهورية اليابسة اللبنانية”