الهديل

شيخة غانم الكبيسي أنا فلسطين

 

تلوثت الأيادي وساد الفساد في صندوق التفاح، الذي راهنتُ علية، انتشر العفن وتمدد بعد أن دُس الدود فيه، فقد زمننا طهارته وصار يتبجح بانتصاراته وفرض هيمنته، وهوم ن أباح دمي وشرد أبنائي، فقدت عذريتي الأولى أمام أعينهم، تراجعوا شيئاً فشيئاً عني حتى استحال وجودي ذكرى جميلة يتشدق بها الأطفال ويبكيها من لامس أناملي وأشتم عطري، هذا إن لم أكن أطلالاً لمن تذوقوا حلاوة السلام بهجرتهم وافلتوا من فرص الموت بين يدي، فكل ما كان بأحضاني طمعوا فيه وقاتلوني عليه حتى سلبوني إياه، ليغدو الفراق مصير أم لم تنفك اشتياقاً لأبنائها الذين تاهوا فاقدين بوصلتهم وهويتهم، زحفوا بحثاً عن أم بديلة يبحثون فيها عن أشباهي أو أنفسهم التي لن يجدونها أبداً.

 

لم أفهم كل هذا الإجحاف في حق مفاتني التي أُهدرت، وأصولي التي تشوهت بأيدي من ظننتهم لي حماة تارة وبيد جار عدو تارة أخرى، هل أنا أم افتراضية لم تجد رجلا يصونها كعمر بن الخطاب وجيوشا كجحافل صلاح الدين الأيوبي تستعيد وتحفظ لها كرامتها، أم بات الرجال يرتعبون من شموخي وصمودي الذي أقلقهم على مر العصور بأيدي أطفالي الذين قطعوا عهوداً بالثأر لي، قدموا أجسادهم قرباناً وهدروا دماءهم لإنعاشي، قُتلوا بوحشية بعد أن استُباحت أعراضهم وهُجروا من مساكنهم، تجمعوا حولي لا يملكون سلاحاً بل يملكون الحق بين أيديهم ويعتصمون بالشجاعة أمام عدوهم المستبد الذي لا تعنيه إنسانيتهم ولا يرق قلبه لأطفالهم وشيوخهم، يجول دون رقيب أو حسيب وسط منازلهم ومقدساتهم ليكيل بهم ويقوض ما بقي من بطولاتهم، يلاحقهم من مدينة إلى أخري ليملأ بهم السجون وينتزع من قلوبهم حبي ولكن هيهات له مبتغاه.

 

رقص الآباء خلف جثمان فلذات أكبادهم وزغردت الأمهات التي جفت دموعهن بخياطة الأكفان، يحيط بهم شباب تعلموا من جرائم الاستعمار الشراسة ومن تخاذل الشعوب الصمود والغضب مرابطين بالداخل يتوعدون بالانتقام ويعدون بالنصر.

 

لن تكون حيوات هؤلاء مهدورة، ترص صورهم على الجدران ومغلفات الكتب وصفحات الصحف اليومية، ولن تضيع سنوات الأسر والتنكيل الطويلة من عمر الأرواح العظيمة التي حملت على أكتافها الجنائز ومشت حافية فوق أسلاك المخيمات وتحت قصف أبناء صهيون والمتصهينين.

 

أين الغيرة على مستقبل أطفالي الذي بات يتقن لغتهم ويتعلم بمدارسهم؟، لم يعد يملك جواز مرور أو عُملة ورقية تثبت أمومتي، أين الحقيقة من الأكاذيب لسلخهم عن أصولهم وطمس تاريخ أجدادهم؟، أين السلام الذي ينادون به وهم يعتدون على ممتلكاتي كل يوم، حتى قضموا كل أطرافي واستباحوا حدودي وحاصروا شعبي ونكلوا بمقدساتي؟.

 

أنا فلسطين، هل تذكروني، أنا الحاضرة رغم التهميش، أُحافظ على كرامة عروبة باعتني، وأصون مقدسات أديان تجاهلتني، في جبالي ترى الصمود، والإصرار يملأ تلالي وتفيض بالكرامة هضابي، وإن بحثت عن الشهامة فلن تجدها إلا في أغواري وعلى سواحل بحاري وضفاف انهاري سيكون الكبرياء والعز قراري.

 

لذا تجاورت حدودي الجغرافية لأتعرف على هذه الأم المناضلة وأتجول في صروح كرامتها، اقطف عناقيد العنب المتدلية على أسوارها، اشتم بشوارعها عبق الماضي الأصيل، أستظل بشجرة زيتون عطرة مُعمره، وأراقب أغصان الصفصاف الباكية وأنا أتذوق التين النابلسي الذي يرمز لهويتها التاريخية، بهرتني خصال شعبها الأصيلة وإيقانه المتأصل وسعادته لوجودنا بأراضيه ومساندتنا لقضيته.

 

ولكن سادت مشاعر الاستهجان والتي لي منها الكثير، بعدما شاهدت الواقع الذي لا يُنقل عبر الشاشات، واكتشفت الحقائق التي تُغطى بالغربال، ولامست الأحزان التي لا تُعبر عنها الكلمات والجروح التي لا يمكن أن تندمل، مُعاناة إنسانية يبتلعها العالم بأطيافه وأجناسه من أجل توفير معاملة استثنائية لمحتل تجاوز كل الانتهاكات الصارخة للقوانين الدولية وحقوق الإنسان.

 

شعب سجين يحتاج إلينا لنربت على أكتافه ونمسح دموعه ونشد من عزمه، بعد أن دافع عن شرف الأمة وحفظ كرامتها وفعل ما تمنينا فعله ولكن جبننا خذلنا أمام تقاعس الأمة وفساد السياسة.

فلم نكن هناك حين تشردوا ليلاً من منازلهم ولم نكن هناك حين سالت دماؤهم لتغطي أشجار الزيتون، ولم نكن هناك حين اضطرهم الخونة والفاسدون لخوض معركة غير متكافئة وعادلة لتقرير مصيرهم المستحق والمتوارث منذ قرون، كما لم نكن هناك حين استبيحت أعراضهم أمام الجار وأبناء العمومة واغتيل قاداتهم، لم نكن هناك حين حوصروا وجوعوا ونُكل بجثثهم، لم نكن هناك أبداً ولن نكون.

Exit mobile version