خاص الهديل:
كان منح بك الصلح يتندر مع الصحافي ميشال أبو جودة؛ بالقول أنه “عندما يذهب أي ماروني إلى عيادة نفسية، فإن أول سؤال يوجهه له الطبيب النفسي المعالج، هو: متى كانت أول مرة فكرت فيها أن تكون رئيس جمهورية”!!.
كان منح بك يقول أن الموارنة لديهم “اضطراب فخامة الرئيس”؛ ولم ينكر ميشال أبو جودة أن لقب فخامة الرئيس هو “هوس ماروني قاتل”..
وكثيرون من مثقفي الموارنة اعتبروا أن رئاسة الجمهورية كان يراد منها أن تكون “نعمة” و”امتياز للموارنة”، فتحولت إلى “نقمة” عليهم، و”فتنة” فيما بينهم.
المشكلة تكمن في أن “لقب فخامة الرئيس”، أصبح عنواناً لصراع ماروني – ماروني وجودي، ولم يعد عنواناً لإثبات اقتدار الموارنة على إدارة هذا الموقع الوحيد المتاح للمسيحيين في كل دول الشرق الأوسط..
.. سابقاً كان الموارنة يتصرفون على أساس أن عليهم أن يقدموا كل ست سنوات من بينهم، شخصية مارونية لتولي منصب فخامة رئيس الجمهورية، تجمع كل البرجوازية الإسلامية والمسيحية على نخبويتها، بغض النظر عن رأيهم السياسي بها.. فبشارة الخوري وبعده كميل شمعون، وأيضاً فؤاد شهاب وشارل الحلو، مثلوا شخصيات مارونية لامعة ومشهود لها بأهميتها.. اليوم ضاعت بصمة ماذا يريد الموارنة أن يقولوا للعالم كل ست سنوات(!!)، وصار سؤال الموارنة موجه لأنفسهم، ومفاده: “من بينهم سيغتال الآخر سياسياً، حتى يحتفظ لنفسه بلقب فخامة الرئيس”..
وبات استحقاق رئاسة الجمهورية يشبه عند الموارنة فيلم “البقاء للأقوى”، حيث كل طرف ماروني يعتبر وصول الطرف الماروني الآخر للرئاسة، بمثابة خسارة وجودية له، وليس مجرد خسارة ديموقراطية..
إن الحرب التي يشنها اليوم جبران باسيل ضد سليمان فرنجية، هي أشبه “بحرب صليبية” لتحرير قصر بعبدا من طموحات منافسه الزغرتاوي؛ أما الحرب التي يشنها ضد قائد الجيش فهي فعلياً تشبه “حرب الأرض المحروقة” التي تعمل لإحراق كل فرص قائد الجيش منذ هذه اللحظة لغاية لحظة خروجه متقاعداً من اليرزة.
ويشمل هذا المناخ المثقل بتبادل العدائية، معظم الشخصيات المارونية الأخرى، التي تكن لبعضها البعض بمناسبة الاستحقاق الرئاسي، رغبات تبادل طعنات الخناجر المسمومة.
ثمة من يقترح مخلصاً أن يتخلى الموارنة طوعاً عن منصب رئاسة الجمهورية؛ لأن ذلك سيجعلهم يربحون وحدتهم التي هي رمز قوتهم والتي خسروها بسبب حدة صراعهم الشرس على نيل لقب فخامة الرئيس.
ووحدة الموارنة المقصودة ليس تحولهم لشاطئ تتشابه حبيبات رماله، بل وقوفهم صفاً واحداً وراء ثوابت وطنية.. فرادة البلد في محيطه بحاجة لمسيحية وطنية قوية، كما أن عروبة البلد تحتاج لسنية إسلامية معتدلة قوية، ونفس الأمر تحتاجه قوة البلد حين الحديث عن الشيعة ودورهم في الاجتماع اللبناني، والدروز ودورهم في إثبات أصالة المجتمع اللبناني.
والواقع أن نصيحة أن يفضل الموارنة قوتهم على لقب فخامة الرئيس، هي نصيحة تنطلق من تجارب الموارنة الذين خاضوا فيما بينهم حرب إلغاء، جعلتهم يخسرون تمثيلهم القوي في مؤتمر الطائف الذي تفاوضت خلاله الطوائف على النظام السياسي الجديد للبنان..
.. وتنطلق هذه النصيحة أيضاً من كون الموارنة مهددون بخسارة مواقعهم الرئيسة، وذلك نتيجة تشتتهم الذي سببه الأساس صراعهم على نيل لقب فخامة الرئيس، ما جعل الطوائف الأخرى تقرر عنهم من هو الماروني الذي سيكون رئيساً للجمهورية.
والخلاصة التي وصل إليها عقلاء موارنة هي أن وحدتهم أثمن لهم من موقع رئاسة الجمهورية، وأنه إذا كان لقب فخامة الرئيس سيجعل الموارنة يخسرون وحدتهم وقرارهم فوق أرض أجدادهم؛ فالأجدر بهم التمسك بقرارهم ووجودهم الحر، على أن يتمسكوا بلقب فخامة رئيس الجمهورية المتسلعة..
وهناك بهذه المناسبة، سؤال يدور في كواليس لبنانية لا تنتمي إلى بيئة صراع ديوك الطوائف الروماني؛ ومفاده “منذ متى لم يبادر الموارنة لحوار عميق فيما بينهم حول واقعهم وحول دورهم وحول مستقبل لبنان؟؟”..
منطقياً كان يفترض أن يبادر الموارنة بعد إقرار نظام الطائف الذي يفهمونه بأنه مجحف بحقهم، إلى حوار من هذا النوع.. صحيح أنه بعد الطائف خرج ميشال عون من لبنان، ودخل سمير جعجع السجن، ولكن حتى بعد عودة الرجلين إلى الحياة السياسية؛ فإن أحداً منهما لم يدعو لنقاش ماروني جماعي، وليس لحوار ثنائي بين حزبين مارونيين، هما بالمحصلة – مهما كبر حجمهما الشعبي – يشكلون جزء من الموارنة وليس كل أو حتى معظم الموارنة..
إن اتفاق أو تفاهم معراب كان تقاطعاً لحظوياً بين حزبين مارونيين. ورغم أن كلاً من إبراهيم كنعان وملحم رياشي تبرع كل منهما بوضع وسام الاقتدار السياسي على صدر الآخر، إلا أن وقائع الطريق إلى اتفاق معراب، كانت واضحة منذ البداية، لجهة أنها تؤشر إلى وجود هاوية سحيقة تنتظر الطرفان في نهايته.
تفاهم معراب كان اتفاقاً انتخابياً، وليس اتفاقاً استراتيجياً لا مارونياً ولا وطنياً.. وكل اتفاق انتخابي مهما رافقه من حملات “طبل وزمر”، فهو بالنهاية يشبه ديناً لا يتم تسديده في وقت استحقاق سنداته.
إن معارك طواحين الهواء التي يخوضها الموارنة بين بعضهم البعض، خاصة بعد اتفاق الطائف، أصبحت أشبه بصراع الديوك الرومية التي تنتهي على خاسرين هما الديكان المتصارعان والمتنافسان، فيما الرابحون هم المراهنون على موت أحدهما، ذلك أن نصر الآخر سيبقى منه بعد العراك الجراح والحسرة على الصحة التي تهالكت.. إن الديوك الرومية المارونية تدمي بعضها، بمناسبة انتخابات فخامة الرئيس الخاسر، ومن سيربح نتيجة عراكها الذي يتجدد كل ست سنوات، هم كبار المراهنين على الاحتفال بخسارة أحد الديكين المتصارعين، أو بالاحتفال بانتصارهم فوق دم الديك الآخر الرابح!!.