خاص الهديل:
أمس أعلن الرئيس بري نهاية مبادرته التي دعت لحوار من سبعة أيام، يليه جلسات متتالية لانتخاب فخامة الرئيس العتيد.. لقد رفض الموارنة الحوار (عدا فرنجية)، وأيده الدروز، ولم يقل السنة رأيهم الصريح به. ولذلك اعتبر بري في تصريحاته أمس أن الموارنة (أي القوات والعونيون) هم الذين أسقطوا الحوار، وحمّلهم مسؤولية عدم إفساح المجال أمام انتخاب فخامة الرئيس المسيحي العتيد.
والواقع أن مواقف الرئيس بري أمس التي أعلن خلالها فشل مبادرته، كانت لافتة؛ وذلك أولاً لجهة أن بري يسلم لأول مرة بأنه فشل بتنفيذ مبادرة سياسية يتبناها شخصياً؛ علماً أن بري كان يمكنه تحاشي الفشل الشخصي من خلال ترك الياس بو صعب يتولى إدارة الحوار الذي دعا إليه؛ وبذلك يصبح بإمكانه القول أن بو صعب فشل بتطبيق مبادرة بري للحوار.. ولكن كان واضحاً أن بري يريد إبقاء “كرة نار دعوته للحوار وفشله” بين ذراعيه!.
وكان لافتاً بري أمس من جهة ثانية أنه لأول مرة تقريباً، يسلم بفشله في تأكيد صورته كمايسترو مقتدر على إدارة اللعبة السياسية الداخلية..
وبنظر مراقبين هناك احتمالان اثنان يفسران لماذا تصرف بري أمس على هذا النحو: الأول أن بري أراد فعلاً أن يعترف بفشله في إدارة لعبة انتخاب الرئيس؛ الثاني أن يكون بري تقصد إظهار نفسه أنه واجه رغماً عنه فشلاً شخصياً في إدارة لعبة إنتاج فخامة الرئيس، وذلك كي ينزع كرة تهمة التعطيل من حضنه بخاصة، وحضن الثنائي الشيعي بعامة، وبرميها في حضن باسيل بخاصة، وحضن الثنائي الماروني بعامة اللذين رفضا الاستجابة لمبادرته للحوار التي دعمها لودريان ووافق عليها الدرزي، ولم ترفضها الرياض ولا واشنطن ولم يعلق عليها السنة..
وبنظر الذين يقولون بالاحتمال الثاني، فإن بري يدرك أن أفضل صورة ممكن أن يقدمها لنفسه دولياً وعربياً وداخلياً في هذه المرحلة الحساسة، هي صورة أنه “شهيد مطالبته بالحوار”.. وأنه ضحية رفض الأطراف المارونية الأساسية للحوار الذي دعا إليه لتعبيد طريق انتخاب فخامة الرئيس العتيد..
.. وبهذه الطريقة يكون بري أمس قد استثمر للحد الأقصى، برفض جبران باسيل وسمير جعجع لفكرة اعتماد الحوار لحل المشاكل في لبنان وبمقدمها مشكل انتخاب فخامة الرئيس..
وهنا يريد بري القول للخارج الذي لا يتعاطف مع رافضي الحوار في كل أزمات العالم، أن مشكلة لبنان هي مع رافضي الحوار داخله، وأن نجاة لبنان تكون بأن يدعم العالم طالبي الحوار داخله.
ولا شك أن بري نجح في “إدارة لعبة فشله بخصوص مبادرة الايام السبعة والجلسات المتتالية”.. وبنتيجة مناورته هذه تحول بري بين لحظة وأخرى إلى معارض لرافضي الحوار ولرافضي عقد الجلسات المتتالية لانتخاب فخامة الرئيس، بعد أن كان متهماً بإقفال باب الحوار على إسم المرشح الثالث ووصد باب المجلس النيابي أمام عقد جلسات متتالية لانتخاب فخامة الرئيس.
وبين لحظة وأخرى، نجح بري عبر “إدارة فشل مبادرته”، في تحويل زيارة لودريان الأخيرة إلى لبنان، من زيارة تعلن فرنسا خلالها عن تخليها عن ترشيح فرنجية، إلى زيارة تعلن فرنسا خلالها تأييدها لحوار بري ومعارضتها لرافضي حواره..
قصارى القول هنا هو أن بري نجح عبر “مبادرته الداعية للحوار ومن ثم مناورة إدارة فشلها” في تحويل صورة البلد من أنه منقسم بين حزبين اثنين، حزب يريد فرض فرنجية رئيساً وحزب يرفض فرض فرنجية؛ إلى صورة أن البلد منقسم اليوم بين حزبين: حزب مع الحوار الذي يدعو إليه بري وحزب ضد الحوار الذي دعا إليه بري ولودريان ووليد جنبلاط ولم تعارضه الرياض وواشنطن…
وتقصد بري أمس إثر نعيه لمبادرة الحوار التي أطلقها، أن يترك وراءه مجموعة أسئلة تظهر أن بديلاً لحواره لا يوجد سوى حوار واحد وهو “حوار الطرشان” الذي ستتم الدعوة إليه وفق صيغ ثبت فشلها، من قبيل ما يطرحه لودريان بخصوص استبدال الحوار بالتشاور، وما يطرحه باسيل بخصوص استبدال “الحوار الوطني” بحوار حزبي ثنائي بين حزب الله والتيار الوطني الحر..
والفكرة التي لم يقلها بري أمس ولكنه يضمرها في كلامه؛ هي أن السقوط العلني لمبادرة الحوار الذي دعا إليه، يتزامن مع سقوط صامت لعدة مبادرات للحوار داخل لبنان وخارجه، كمثل أن الحوار بين حزب الله والتيار العوني وصل إلى حائط مسدود؛ وأيضاً كمثل أن الحوار بين لودريان والسعودية وصل إلى نقطة تحتاج لإيضاح، وأن الحوار بين لبنان وسورية بخصوص تنظيم ملف النازحين عالق عند رفض وزير الخارجية للحوار مع دمشق؛ وأن الحوار من أجل إطلاق ترسيم الحدود البرية في الجنوب، توقف عند مشكلة عدم وجود حوار دولي واقليمي لتحديد هوية شبعا، الخ..
مرة أخرى نجح بري في “إدارة فشل مبادرته “بحيث أظهر أنه يحمل على ظهره صليب مطالبته بالحوار داخل جلجلة أن الموارنة يرفضون الحوار وأنهم ينطبق عليهم مقولة “يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون”.