خاص الهديل:
هذا ما تفعله حرب غزة بخارطة توزع القوى السياسية في إسرائيل: “ولادة التيار الإنساني”!!
يتوقف مراقبون عند النتائج التي تخلفها حرب غزة على الداخل الإسرائيلي.. والمقصود هنا ليس فقط النتائج العسكرية أو الإقتصادية أو الخسائر البشرية والمادية الباهضة؛ بل المقصود بخاصة النتائج السياسية على مستوى تغير الاتجاهات والمفاهيم ونظرة المجتمع الإسرائيلي إلى المستقبل..
لا شك أن الوقت لا زال مبكراً لإطلاق استنتاجات دقيقة حول ما الذي غيرته هذه الحرب داخل إسرائيل؛ ولكن رغم ذلك، فإنه بات يمكن لحظ بدايات تشي بولادة مسارات جديدة و حصول إرهاصات تفسح المجال أمام تغيرات هامة تقتحم المجتمع السياسي والحزبي والثقافي الإسرائيلي:
.. أبرز هذه التغييرات تفيد، بأن نتائج الحرب المستمرة بدأت منذ الآن ترسم بوضوح ثلاثة إتجاهات سياسية أساسية أخذت بالتبلور بقوة داخل إسرائيل:
بخصوص كيف تؤثر هذه الحرب على التيار اليميني العام الذي يضم “كل اليمين من أدناه إلى أقصاه)، أي من معسكر بن غفير المنتمي للحاخام كهانا حتى تيار نتنياهو المنتمي لمعسكر اليمين الجاوبوتنسكي التاريخي (اليمين الإصلاحي)، فهو لا يزال حتى الآن – بحسب التقديرات – يملك نسبة حضور شعبي تقارب عتبة الـ٥١ إلى ٥٢ بالمئة.. أي أن ” تيار اليمين مجتمعاً” وبكل تلاوينه، لا يزال هو الأغلبية؛ ولكن بمقابلة بدأ يحدث نوعين إثنين من الوقائع المتغيرة؛ إحداها نزوح بيئات تقيم على ضفاف بحر اليمين الإسرائيلي إلى تيار الوسط السياسي؛ والثاني يشي بأن وقائع حرب غزة ونتائجها تنتج معادلة جديدة على مستوى وضع اليسار والوسط، تقترب شيئاً فشيئاً لتصبح هي الأغلبية..
وتتشكل هذه المعادلة من تيارين إثنين أساسيين:
تيار اليسار والوسط الذي كانت نسبة حضوره الشعبي زادت أصلاً خلال الأشهر الأخيرة، بفعل تعاظم حركة اعتراض الشارع المدني الإسرائيلي على “الإصلاحات القضائية” التي اقترحتها حكومة أقصى اليمين.. كما أن تيار الوسط بدأت تزداد نسبته أيضاً بفعل حرب غزة؛ إذ يلاحظ أن هناك شرائح اجتماعية إسرائيلية تتموضع بين اليمين والوسط، بدأت تقترب من الوسط، كونها تعتبر أن حكومة نتنياهو ومعه كل اليمين أظهروا فشلاً صادماً بموضوع “حماية أمن المستوطنين”.
وهذه الشريحة النازحة من ضفاف اليمين إلى الوسط؛ تمثل جزء غير قليل من بيئات تقيم على ضفاف بحر اليمين الإسرائيلي؛ وميزتها السياسية المشتركة، تتمثل بأنها “يمين غير أيديولوجي” بل هي “يمين أمني”؛ بمعنى أنها كانت تؤمن بأن اليمن يستطيع أكثر من اليسار والوسط، أن يجلب الأمن لإسرائيل سواء بوجه الفلسطينيين أو إيران، الخ..
.. غير أن هذه البيئات المقيمة مصلحياً وليس أيديولوجياً داخل موقع اليمين الإسرائيلي الأمني، اكتشفت اليوم حقائق كبيرة وصادمة لها؛ أولها أن طروحات اليمين الأمنية المتشددة لم تجلب الأمن لإسرائيل، بل جلبت على إسرائيل الدمار والعار بدليل ما حدث للمستوطنين وللجيش الإسرائيلي في غلاف غزة.. واكتشفت ضمن هذا الإطار أن ما بناه جنرالات اليمين الأوائل أمثال أرييل شارون، خربه ملك اليمين الحالي بنيامين نتنياهو!!..
والحقيقة الثانية تتمثل بأن هذه الشريحة الاجتماعية الإسرائيلية ما عادت تراهن على اليمين وعلى حكومة اليمين ولا على تفوق الجيش والأمن الإسرائيليين لحماية إسرائيل، بل باتت تراهن على إدارة البيت الأبيض وعلى حاملات الطائرات الأميركية كي تقدم الحماية الوجودية لإسرائيل. وعليه فإن هذه الشريحة قررت أن تتخلى عن تأييدها لأي حزب أو تيار أو حكومة في إسرائيل تكون على خلاف سياسي مع الإدارة الحاكمة في البيت الأبيض.. وعليه فإن خلافات حكومة نتنياهو مع إدارة البيت الأبيض الحالية، أصبحت تشكل سبباً وجيهاً لجعل بيئات اليمين المصلحي تقرر عدم الاستمرار بتأييدها.
وضمن هذه الجزئية يجدر لفت النظر إلى موضوع آخر، وهو أن نسبة الهجرة اليهودية من إسرائيل، سيرتبط مؤشرها منذ ٧ أكتوبر ٢٠٢٣ وصاعداً، بعامل أساسي وربما وحيد، وهو موقف واشنطن من ملف حماية إسرائيل.. ففي حال شعر الإسرائيلي أن تعهد واشنطن بحماية دولته العبرية تراجع؛ فإنه سيصبح أكثر ميلاً للهجرة من إسرائيل..
بمعنى آخر، فإن الحزب الأميركي الحاكم في البيت الأبيض لم يعد هو فقط ناخب كبير في إسرائيل، بل أصبح يمثل ٩٠ بالمئة من قرار من سيفوز في الانتخابات الإسرائيلية؛ كما أصبحت أميركا هي الممسكة بكل مفاصل أسباب الوجود الإسرائيلي الديموغرافي والعسكري.. وهذه الحقائق التي كانت موجودة، ولكن ليس بهذا الوضوح المطلق، سيكون لها تأثير كبير منذ اليوم، على صياغة الخارطة السياسية الداخلية الجديدة الإسرائيلية؛ حيث هناك توقع يقول بأن إسرائيل ستنقسم لتيارين سياسيين كبيرين: الأول هو امتداد للحزب الجمهوري الأميركي ومؤيد له؛ والثاني هو امتداد للحزب الديموقراطي الأميركي ومؤيد له.
.. ولكن داخل إسرائيل هذه الذاهبة إلى الانقسام بين تيارين جمهوري وديموقراطي، يولد فيها حالياً تيار ثالث هو نتاج مباشر لوقائع حرب غزة؛ ويتم تسمية هذا التيار بـ”التيار الإنساني”.. وتنتمي لهذا التيار عائلات وأقارب والمتعاطفين مع أهالي الأسرى الذين سقطوا بقبضة الفصائل الفلسطينية في عملية طوفان الأقصى..
ومعروف أنه بعد حرب الـ٨٢ ولدت في إسرائيل اتجاهات سياسية كحركة الأمهات الأربعة التي تعبر عن مطالبة الأمهات الإسرائيليات بالعمل لإطلاق أبنائهم من الأسر بأيدي الفلسطينيين.. وحالياً فإن واقع أن عدداً كبيراً من الأسرى موجودين لدى حماس واخواتها، فإنه يتوقع أن تشكل حركة المطالبة بإطلاقهم، اتجاهاً واسعاً داخل الرأي العام الإسرائيلي، ما يرشحه لأن يتحول إلى تيار سياسي يتموضع بالقرب من اليسار والوسط ضد اليمين الممثل بنتنياهو الذي قرر مقاربة موضوع الأسرى وفق “مبدأ هانيبعل” الذي لا يعطي أهمية لاستمرار الحرب على أولوية تحرير الجندي الأسير.. ويقول مبدأ هانيبعل: “الجندي الميت أفضل من الجندي الأسير”.
.. وعليه فإن خلاصة المشهد الداخلي الإسرائيلي كما ترسمه نتائج حرب غزة يتجه نحو التالي:
نزوح اجتماع “اليمين الأمني المصلحي” نحو معسكر الوسط؛ وأيضاً ولادة تيار إنساني على خلفية مطالبة اليمين بالعمل على إعطاء أولوية لإطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين؛ وهذا الواقع قد يخلق أغلبية مؤلفة من تياري الوسط واليسار من جهة والإنساني من جهة ثانية.. وأيضاً وأيضاً اتجاه الاجتماع السياسي الإسرائيلي ليصبح رهينة استقطابه من الحزبين الجمهوري والديموقراطي الأميركيين..