الهديل

خاص الهديل: الدولة اللبنانية.. ودول قرار الحرب والسلم في الجنوب!!

خاص الهديل:

حينما يتصل وزير الخارجية الأميركي بلينكن برئيس الحكومة ميقاتي ويطلب منه بإلحاح وقف التصعيد العسكري الجاري حالياً على الحدود بين لبنان وإسرائيل؛ بماذا يمكن توقع أن يجيبه ميقاتي؟؟.

منطقياً لا يملك ميقاتي أن يقول له حتى أنني سأحاول!!؛ لأنه لا الحكومة ولا كل الدولة، تملك القرار على مستوى ما يحصل على الحدود اللبنانية مع فلسطين المحتلة.. 

وهذا الوضع ليس جديداً؛ فقرار الحرب في الجنوب موجود خارج الدولة في لبنان منذ سبيعينات القرن الماضي.. أي أن هذا الوضع الذي لا توجد للدولة فيه سيطرة على الحدود اللبنانية مع إسرائيل، موجود في لبنان قبل حكومة ميقاتي بعقود؛ فمنذ أواخر سيتنات القرن الماضي حتى بدايات ثمانيناته، كان ياسر عرفات يمسك بمفتاح الحرب والسلم على حدود لبنان مع فلسطين المحتلة؛ وبعد ترحيل عرفات ومقاتليه إلى تونس ومن ثم إلى رام الله، أصبح قرار السلم والحرب في الجنوب قراراً إقليمياً ودولياً، وصار مفتاحه مع حزب الله، ومن ثم مع محور حزب الله الإقليمي الذي يبدأ بطهران ويمر بالعراق وسوريا وصولاً حتى اليمن وغزة.. 

وفي غمرة هذه التعقيدات، يحاول ميقاتي شراء الوقت لعدم تصعيد المواجهات في الجنوب من خلال الرد على إلحاح بلينكن، بأن يطلب منه أن تبادر الإدارة الأميركية بضبط أعصاب القادة العسكريين الإسرائيليين الذين تقول كل التقارير أنهم غاضبون ويميلون لتعويض هزيمتهم يوم ٧ أكتوبر الماضي بالاستمرار بشن حرب انتقامية وبتوسيعها.

مشكلة الدولة في لبنان إزاء ما يحصل في غزة وفي المنطقة وفي جنوب لبنان، تكمن في أن المجتمع الغربي والعربي والإقليمي يريد منها القيام بأدوار لا تملك وسائل تحقيقها.. فحكومة ميقاتي لا تملك المواد التي تمكنها من ممارسة ضغوط مادية على الوضع في الجنوب؛ وهي فقط تملك تنشيط دالتها الدبلوماسية عبر اتصالات شراء الوقت الصعب لمنع نشوب حرب أو لتأجيل نشوبها.. وبالأساس فإن ميقاتي يعمل ضمن ظروف غير مناسبة لتحقيق التهدئة، بدليل أن بلينكن يطلب منه أن يقوم “بضبط أعصاب حزب الله” في جنوب لبنان؛ فيما هناك حاجة قصوى لأن يضبط بايدن نفسه أعصابه، ويفرمل حماسه المطلق الموجه لدعم إسرائيل في حربها المتوحشة على مدنيي غزة وأطفالها..

لقد مر جنوب لبنان منذ نكبة فلسطين عام ١٩٤٨ بتقلبات جيوسياسية عديدة، كان يصعب على المركز في بيروت (الدولة) وضع يده على مجرياتها الأمنية والسياسية.. ففي البداية كان الجنوب جزء من الثورة الفلسطينية التي واجهت أنشطة الحركة الصهيونية في فلسطين قبيل النكبة.. وكتبت إحدى كبريات الصحف البريطانية آنذاك أن الثورة الفلسطينية تنقاد من بنت جبيل في جنوب لبنان.. وبعد نكبة الـ٤٨ كان الجنوب مساحة جغرافية ومخيماً كبيراً لتعويض الفلسطيني فقدان منزله وحقله وأرضه.. وبعد هزيمة العام ١٩٦٧ قدم العرب للفدائي الفلسطيني منطقة عمل عسكرية له في جنوب لبنان لتعويضه عن فشل الجيوش العربية بتحرير أرضه؛ وأطلق على هذه المنطقة التي أنشئت في العرقوب، تسمية ‘فتح لاند”.. وبعد الحرب الأهلية تحول كل الجنوب إلى “منطقة فتح لاند”، وأصبح عرفات الحاكم الثوري الفعلي لقرار الحرب والسلم في جنوب لبنان وفي معادلة الحرب والسلم الإقليمية.. وبمقابل أن فتح لاند أصبحت خارطة كل الجنوب، فإن الاعتداءات الإسرائيلية على الجنوب تمددت لاحتلال بيروت ذاتها عام ١٩٨٢.. بمعنى أن فكرة إبقاء الحرب مع إسرائيل بجزء من الجنوب في زمن فتح لاند لم تنجح، بدليل أن منطقة فتح لاند توسعت لتضم كل الجنوب؛ وبدليل أن الإعتداءات الإسرائيلية توسعت لتشمل كل لبنان، ولم تبق محصورة بالمنطقة الجنوبية الحدودية. 

.. ما يجري اليوم هو تكرار لمشهد ما حدث في الجنوب منذ ثلاثينات القرن الماضي حتى عام ٢٠٠٠، ولكن بشكل مكثف: اليوم يرسم ميدان حرب جنوب لبنان المتصل بحرب غزة، منطقة “حزب الله – لاند” فوق منطقة حدودية ضيقة من الجنوب؛ وذلك تحت عنوان أن الحزب يسهم عسكرياً بالدفاع عن فلسطين، من دون أن تتوسع الحرب لتطال باقي لبنان أو كل لبنان.. وهذا المشهد هو تكرار لفكرة “فتح لاند” في العرقوب في ستينات القرن الماضي.. 

.. وما يحدث اليوم هو بروز أصوات غربية تقول أن قيادة كل عملية “طوفان الأقصى” موجودة في الضاحية الجنوبية في لبنان، وقرارها موجود بين يدي مقاومة حزب الله التي عاصمتها للمفارقة هي بنت جبيل.. وهذا المشهد هو تكرار لما قالته إحدى أكبر الصحف البريطانية في أربعينيات القرن الماضي عن أن قيادة الثورة الفلسطينية موجودة في بنت جبيل..

.. وما يحدث اليوم أيضاً وأيضاً، هو أن احتمال توسع الحرب لتتجاوز منطقة “حزب الله لاند” في الشريط الضيق الحدودي لتشمل كل لبنان، وارد وقائم، كما حدث بخصوص توسع الحرب الإسرائيلية لتشمل كل لبنان، وتتجاوز منطقة فتح لاند، ومنطقة الجنوب.. 

لا يستطيع ميقاتي أو وزير خارجيته أو الدولة اللبنانية، ضبط تكرار حركة تاريخ أزمة الحرب والسلم في جنوب لبنان؛ ذلك أن أزمة الجنوب المتمثلة بأنه أصبح مساحة جيوسياسية خارج إرادة الدولة، ولدت مع بدء نكبة فلسطين، وصارت ظلاً لتداعياتها الكبرى؛ وأحياناً صارت أزمة الجنوب “عصا الأعمى” بالنسبة للفلسطيني الفدائي أو المجاهد، وصارت بنت جبيل ليست فقط مدينة لبنانية جنوبية تسند الثورة الفلسطينية، بل صارت تقودها كما قال الغرب عنها في ثلاثينات القرن الماضي؛ وكما يقول اليوم!!..

Exit mobile version