خاص الهديل:
طوال الأيام الماضية لم يعد يظهر على شاشات التلفزة الإقليمية والعالمية سوى مشهد واحد؛ وهو صور المجازر الإسرائيلية في غزة؛ وصور أشلاء الأطفال والنساء والشيوخ والمرضى الفلسطينيين، الخ..
وهذا الواقع خلق انقلاباً في مزاج الرأي العام العالمي لصالح التعاطف مع غزة ضد البربرية الإسرائيلية.. ويمكن ترجمة هذا الوضع الجديد سياسياً من خلال القول أن “التوازن الأخلاقي العالمي” بات يميل في هذه اللحظة بشكل شبه كامل، لصالح غزة وتحديداً لصالح الشعب الفلسطيني في غزة.
وحالياً يمكن الحديث عن ميدانين إثنين احتدم فوقهما الحرب داخل فلسطين المحتلة، وهما الميدان الإنساني حيث يوجد لغزة وأهلها تفوق كبير؛ والميدان العسكري حيث يوجد لغزارة النار الإسرائيلية تفوق واضح على غزارة النار الفلسطينية..
.. غير أن الميدان الإنساني، يعتبر أهم في كثير من مراديده السياسية، من الميدان العسكري؛ كون الأول يتفاعل معه الرأي العام العالمي والإعلام الدولي؛ وكلا هذين العاملين قادرين على تكوين ضغط على حكومات الدول لجعلها تغير مواقفها من الصراع الدائر…
.. وعليه فإن مشكلة إسرائيل اليوم ومعها أميركا وفرنسا وبريطانيا تكمن في قوتها المفرطة، وغير المتناسبة مع نوعية النار التي يطلقها الفلسطيني عليها؛ علماً أن قوة إسرائيل خلال الأيام الأولى التي تلت ٧ أكتوبر كانت تكمن في ضعفها الذي ركز الإعلام العالمي عليه عبر نقل صور مقاتلي حماس وهم يأسرون ويقتلون نحو ألفي إسرائيلي ثلاثة أرباعهم مدنيين. ولاشك أن تل أبيب استثمرت بكل قدراتها في هذه “اللحظة السياسية العالمية” التي تحدث فيها الإعلام العالمي عن ضعف إسرائيل التي تواجه خطراً وجودياً تمارسه ضدها “منظمة دينية” مصنفة دولياً بأنها “منظمة إرهابية”!!، وبنفس الوقت قامت الدول الغربية الكبرى بتنفيذ “مناورة أخلاقية دولية” مزعومة من خلال إرسال رؤسائها وأساطيلها لإنقاذ إسرائيل المحاصرة بالعداء للاسامية..
والواقع أن نتنياهو لم يحسن استغلال هذه الصورة (الكاذبة) التي ظهرت عليها إسرائيل عالمياً خلال الأيام الأولى التي تلت يوم ٧ أكتوبر ٢٠٢٣؛ فبدل أن يعزز هذه الصورة بعوامل تعمق معنى أن إسرائيل في خطر، كما صورها الإعلام العالمي؛ فإنه قام تحت وطأة أنه يريد ترميم هيبة الردع، بوضع العامل الإسرائيلي الإجرامي الحقيقي عليها، ما أدى إلى كشف زيفها سريعاً، حيث ظهر مرة أخرى أن إسرائيل ليست ضحية ولا دولة ديموقراطية، بل دولة محتلة وقاتلة وتقوم بإخضاع شعب بكامله للعقاب الجماعي..
.. باختصار، فإن ما حدث منذ بدء حرب “طوفان الأقصى” حتى اليوم، هو أن إسرائيل مع بداية الأسبوع الأول من هذه الحرب، كانت تتفوق على الفلسطيني لأول مرة في “الميدان الإنساني”؛ فيما الجانب الفلسطيني بعد تنفيذ عمليته في غلاف غزة، بدا أنه يتفوق على إسرائيل لأول مرة في “الميدان العسكري”؛ أما في الفترة الأخيرة من الحرب فإن “الميدان الإنساني” عاد يتفاعل كما هو دائماً، لصالح الفلسطيني، فيما “الميدان العسكري”، عاد كما هو دائماً لتسيطر عليه إسرائيل المدعومة بغزارة النار الأميركية..
وحالياً تقف الحرب الدائرة منذ نحو ثلاثة أسابيع عند حاجز أنه لا إسرائيل قادرة على تحقيق النصر في الميدان العسكري، لأن قوتها البرية مهما بلغت، لا تمكنها من كسر قانون الطبيعة الذي يقول أن المدن المكتظة بالسكان والمقاتلين، ليست المكان المناسب لدخول الجيوش الغازية إليها؛ ولا غزة قادرة على الاستثمار في قوتها الهائلة في الميدان الإنساني، لأن عنوان حماس في غزة، ينتقص من دعم الرأي العام الدولي لغزة، ويجعله بأحسن أحواله دعماً مشروطاً بتقييد حماس، وليس مطلقاً..
ويبدو أن ما تقوم به الوسطات الدولية اليوم حتى يتحقق وقف قتال ممكن، وليس مثالياً، هو تشكيل ميدان إنساني واضح بموازة ترسيم ميدان عسكري واضح أيضاً، حيث تطالب هذه الوساطات أن يكون الميدان الإنساني الاول خال من وجود حماس فيه، فيما تطالب هذه الوسطات من جهة مقابلة أيضاً، أن يكون الميدان الثاني العسكري خال من أي استهداف إسرائيلي عسكري للأبرياء والمدنيين فيه.
.. وعبر هذه الآلية الخاصة بتقسيم حرب غزة لميدانين إثنين واضحين، يمكن لحماس أن تفتح صفحة إنسانية مع المجتمع الدولي عبر إطلاق الأسرى؛ ويمكن لنتنياهو أن يكون بطل إطلاق الأسرى، بعد أن لحقت به لعنة أنه بطل الهزيمة؛ فيما إدارة بايدن تسجل في صالحها أمام الناخب اليهودي والأمريكي أنها جعلت إسرائيل تنزل بهدوء عن الشجرة، وانها أعادت المواطنين الأميركيين الأسرى لدى حماس إلى حضن عائلاتهم في أميركا.. أما الحرب البرية فهي ستجري فوق ميدان حصول انتخابات إسرائيلية مبكرة، حيث يحاسب خلالها الإسرائيليون أنفسهم عن الأسباب الحقيقية لما جرى؛ فيما ميدان غزة البري سيبقى ينتظر تسوية دولية تنهي أزمة آخر احتلال موجود في العالم، وليس حرباً تنقذ أزمة نتنياهو..