خاص الهديل:
خلال عدوان العام ١٩٨٢ على لبنان، وعند وصول الحرب آنذاك إلى لحظة حصار بيروت من قبل الجيش الإسرائيلي، تم إبرام نحو ٦ اتفاقات لتنفيذ هدن إنسانية تستجيب لاحتياجات العاصمة الإنسانية والغذائية والطبية، الخ.. ومهدت هذه الهدن الإنسانية الست جميعها، للتوصل إلى إعلان وقف شامل للنار تضمن الإتفاق على خروج فتح (عرفات) ومعها منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان باتجاه تونس؛ ولاحقاً، أي بعد أشهر غير كثيرة، بدأ مسار تنفيذ الإتفاق غير المعلن؛ أو ما يمكن تسميته بالملحق السري من اتفاق وقف النار في بيروت، المسمى باتفاق أوسلو الذي أفضى إلى انتقال ياسر عرفات مع منظمة التحرير الفلسطينية من تونس إلى رام الله، لينشئ هناك السلطة الوطنية الفلسطينية فوق جزء من الأرض الفلسطينية.. ثمة من يرى تشابهاً بين مشهد فتح بزعامة عرفات حينما أرغمت عام ١٩٨٢ على الخروج من عاصمتها الرمزية “بيروت الغربية” آنذاك إلى المنفى التونسي ومن هناك تمت إعادتها إلى رام الله وفق خارطة اتفاق أوسلو؛ وبين ما يحدث اليوم من محاولات إسرائيلية، هي في الواقع أميركية، لإخراج حركة حماس وعلى رأسها السنوار، من عاصمتها الفعلية “شرق غزة”، باتجاه “غزة الجنوبية”، ومن ثم دفعها إلى المنفى المصري ليتم التفاوض معها هناك على قواعد جديدة للحل الفلسطيني الإسرائيلي.
إن الفكرة المراد الإشارة إليها هنا تريد التركيز على المعطيات الأساسية التالية:
أولاً- الهدن الإنسانية التي بدأ يتم بموجبها التعاطي مع الوضع الدموي لميدان حرب غزة؛ لها هدف أساسي وهو “التمرحل” باتجاه الوصول لهدف وقف إطلاق النار الشامل، والإتفاق على شروطه السياسية.
.. وإذا كانت حرب بيروت عام ٨٢ احتاجت إلى “٦ هدن إنسانية” حتى أمكن الوصول لاتفاق وقف النار الشامل، وتحديد شروطه المعلنة والسرية؛ فإن البحث عن وقف نار شامل في غزة مع صياغة شروطه المعلنة وملحقاته السرية، يحتاج لأكثر من ست هدن إنسانية، نظراً لطبيعة ميدان غزة الذي بات مثقلاً بالمجازر والمتداخل عسكرياً وسياسياً إلى حد كبير..
ثانياً- إن الهدن الإنسانية المتتالية هي أفضل طريقة، بل هي الطريقة الوحيدة التي يمكنها تخفيض حدة العنف في غزة المتجه للانزلاق نحو توسع الحرب؛ كون هذه الهدن تؤدي إلى تبريد ميدان غزة، وأيضاً تبريد محلقاته على الحدود اللبنانية الفلسطينية وفي البحر الأحمر، وداخل ميدان حرب إطلاق المسيرات والصواريخ الحليفة لطهران على القواعد العسكرية الأميركية في العراق..
.. وعلى نحو يوازي نفس الأهمية، فإن الهدن الإنسانية المتتالية تؤدي إلى الاقتراب من الإجابة على “السؤال الاستراتيجي الضائع” بخصوص تحديد ما سيكون عليه الوضع في غزة خلال اليوم الثاني لإعلان وقف إطلاق النار؟!.
حتى اليوم لا يوجد إجابة واحدة لما سيكون عليه الحال السياسي والعسكري والديموغرافي لقطاع غزة بعد وقف إطلاق النار؛ فنتنياهو يتخبط في الإجابة عن هذا السؤال؛ فتارة يتحدث عن إعادة احتلال الجزء الشمالي من غزة؛ وتارة يتحدث عن تركيب “سلطة فلسطينية مدنية” في غزة بعد انسحاب الجيش الإسرائيلي منها. وكلا الطرحين غير منطقيين، ولا توافقه عليهما حماس ولا سلطة أبو مازن؛ ولا حتى إدارة بايدن التي “تدعي” أن رؤيتها للحل في غزة بعد وقف النار، هو حل الدولتين.. ولكن مشكلة حل بايدن تكمن في عدم الثقة بأنه سيذهب فعلياً بعد وقف النار لحل الدولتين؛ خاصة وأن الفلسطينيين لا يمكنهم الوثوق ببايدن نفسه وبوعوده؛ ولا يضمنون أن لا يصل ترامب للبيت الأبيض بعد أشهر، ويقوم بشق وعد بايدن بحل الدولتين، كما شق اتفاق أوباما النووي مع الإيرانيين..
ثالثاً- إن أقرب “حل” ممكن للعقل وللمنطق، وليس بالضرورة أن يكون أفضل حل؛ هو أن يتم الاتفاق على إدخال شمال غزة بعد وقف النار في نطاق تطبيق القرار ١٧٠١ عليها، أي: أ- أن يصار لتطبيق وقف “العمليات العدائية”؛ أي هدنة، وليس وقف دائم لإطلاق النار.. ب – نشر قوات يونيفيل أوروبية بخاصة ودولية بعكا على حدود شمال غزة مع غلافها، وذلك بعد ترسيم خط ازرق حدودي وخط تقني عسكري. ج – وكما أن القوة الدولية المنتشرة في منطقة ال ١٧٠١ في جنوب لبنان هي قوة أوروبية تم تطعيمها بقوات إسلامية ودولية؛ يتم أيضاً تعميم الدور الأوروبي القائم داخل القرار ١٧٠١ اللبناني – الإسرائيلي، ليشمل القرار ١٧٠١ الفلسطيني – الإسرائيلي. وأيضاً كما أن القرار ١٧٠١ شكل مدخلاً لواشنطن لتقوم لاحقاً بترسيم الحدود البحرية للغاز بين لبنان وإسرائيل بموافقة حزب الله، فإن القرار ١٧٠١ الفلسطيني يمكنه أن يشكل مدخلاً لواشنطن كي تجري ترسيماً بحرياً لحدود الغاز بين غزة واسرائيل بموافقة حماس. هاء – وكما أن تطبيقات القرار ١٧٠١ في منطقة جنوب الليطاني ينص على عدم وجود قوات لحزب الله فيها، وتواجد قوات اليونيفيل حصراً فيها مع الجيش اللبناني؛ فإن نفس هذه التطبيقات تفرض على حماس، وذلك لجهة انسحابها من شمال غزة لتفسح المجال لأن تتواجد فيها حصراً قوات اليونيفيل وربما أيضاً قوات رسمية تابعة للسلطة الفلسطينية من رام الله.
هناك عدة شروط يجب توفرها حتى يمكن إبرام حل لغزة يقوم على نقل تجربة القرار ١٧٠١ في لبنان إلى قطاع غزة؛ أبرزها أن توافق حماس على موجباته؛ خاصة لجهة انسحابها من شمال القطاع الذي سيصبح منطقة عمليات لليونيفيل الأزرق؛ وثانيها أن توافق تل أبيب على حل ال١٧٠١ سيما وأن نتنياهو يستطيع القول أنه يقبل بالسير بال١٧٠١ مع حماس في غزة، ولكن بشرط أن يتم قبل ذلك تطبيقه فعلياً على حزب الله في لبنان!!.
يبقى أن الفرصة المتاحة هي “أوسلو جديد” يفضي إلى “حل جديد ابتكاري”، يكون أكثر تجسيداً للواقع الفلسطيني الجديد بعد ٧ أكتوبر، ولأزمة المشروع الصهيوني بعد فشل سبعين عاماً من محاولات تطبيع الاحتلال فلسطينياً وعربياً.. وهنا يبرز احتمال أن يتكرر مع حماس المحاصرة في غزة نفس التجربة التي حصلت مع “فتح-عرفات” بعد حصاره في بيروت ومن ثم ذهابه من تونس إلى رام الله بقطار أوسلو.