خاص الهديل:
كشفت أمس صحيفة واشنطن بوست نقلاً عن مسؤولين إسرائيليين أن بنيامين نتنياهو كان اقترب كثيراً في بداية الحرب من فكرة القيام بتوجيه ضربة عسكرية استباقية ضد حزب الله..
والواقع أن هذه المعلومة التي كشفتها الصحيفة الأميركية المطلعة؛ لم تفاجأ مراجع لبنانية لأنها كانت خلال الشهر الماضي على علم بنوايا نتنياهو هذه، بالنظر لكونها تلقت من عدة مصادر دبلوماسية غربية تحذيرات من أن إسرائيل قد تكون بوارد مفاجئة لبنان بضربة عسكرية كبيرة جدأ ضد حزب الله، تؤدي إلى الانزلاق نحو حرب شاملة.
وبناء على هذه المعلومات، شاع خلال تلك الفترة في بيروت تقدير للموقف لا يستبعد أن تشن إسرائيل حملة جوية كبيرة ضد أهداف حساسة تابعة لحزب الله في لبنان، وبمقدمها اغتيال شخصيات بارزة في حزب الله، وأيضاً اغتيال قياديين لحركة حماس والجهاد الإسلامي يقيمون في لبنان.
..والأسباب التي دفعت جزءاً من المستوى السياسي والأمني اللبناني ذي الصلة بمتابعة هذا الملف، لكي يصبح شبه مقتنع بأن إسرائيل تقترب من شن حرب شاملة على لبنان هي التالية:
أولاً- واقع أن القنوات الدبلوماسية العالمية التي يعتمد عليها لبنان بالعادة باستقاء معلوماته عن نوايا تل أبيب نحوه، تقاطعت جميعها عند معلومة تفيد بأن نتنياهو لديه مصلحة حيوية بتوسيع حرب غزة لتصبح حرباً إقليمية؛ ذلك أن نتنياهو يريد النزول عن شجرة أزمته الشخصية من خلال توريط أميركا بشكل مباشر في حرب تتحول من كونها حرباً إسرائيلية فلسطينية أبرز ضحاياها على المدى القريب هو نتنياهو وحكومته، إلى حرب إقليمية يكون بطلها الكبير نتنياهو، لكونه نجح في تحقيق واحد من أهم أهداف إسرائيل الاستراتيجية، وهو جر أميركا إلى حرب مباشرة مع حزب الله وبالأساس مع إيران..
وعليه، ساد طوال فترة من الشهر الماضي، توقعاً لدى بيروت بأن لبنان ذاهب باتجاه أن يشهد واحد من سيناريوهين إثنين سوداويين:
الأول أن يبادر نتنياهو إلى دفع الجيش الإسرائيلي لارتكاب مجزرة ضد المدنيين في لبنان، لإحراج السيد حسن نصر الله؛ وجره مرغماً للرد على قتل مدنيين لبنانيين بقتل مدنيين إسرائيليين، خاصة وأنه تعهد في خطابه الذي سبق قتل أطفال عيناتا الثلاثة؛ بأن الحزب سيرد على قتل المدني باستهداف مدني..
لقد أدت ارتكاب إسرائيل لجريمة قتل الأطفال الثلاثة إلى رفع منسوب القناعة داخل لبنان ليس فقط بنظرية أن نتنياهو يخطط لفتح حرب مع لبنان، تقود تداعياتها لحرب أميركية إقليمية مع إيران؛ بل إلى القناعة بأن نتنياهو بدأ فعلياً بتنفيذ هذه الخطة، وذلك من خلال إستفزاز حزب الله لجره إلى ردود عسكرية تشكل حجة لإسرائيل أمام إدارة بايدن قد توسع الحرب مع لبنان، وكي تحولها من مواجهات حدودية مضبوطة إلى حرب شاملة إقليمية تورط واشنطن بالاشتراك فيها بشكل مباشر، ما يؤدي إلى حمل بايدن على إعطاء أمر توجيه ضربة أميركية استراتيجية لإيران.
ثانياً- بعد أن جرى حصر طويل للأنفاس في بيروت لمعرفة كيف ستتطور الأمور بعد جريمة قتل الشهداء الأطفال الثلاثة في عيناتا؛ تبين أن حزب الله اختار بدل الانجرار إلى رد يمنح نتنياهو الحجة أمام واشنطن لتوسيع الحرب، القيام بإجراء تعديل استراتيجي على جوهر خطته للمواجهة في الجنوب اللبناني مع إسرائيل، ويقوم هذا التعديل على النقاط التالية:
التزام الحزب بالحفاظ على أعلى قدر من ضبط الأعصاب الاستراتيجية؛ وبنفس الوقت الحفاظ على أعلى قدر من “التحكم بتوجيه ردود عسكرية مؤثرة وعدم مترددة” لإسرائيل على الجبهة الشمالية..
وجسّد حزب الله هذا المعنى بوضوح عبر جعل رده على جريمة قتل الأطفال الثلاثة، تتم من خلال قيامه برفع منسوب عملياته العسكرية، بحيث تحولت من عمليات متفرقة، إلى “نسق عملياتي عسكري كامل” يجري بنفس الوقت على طول الحدود اللبنانية مع فلسطين المحتلة، وذلك من الناقورة حتى مزارع شبعا؛ وبنفس الوقت أفسح حزب الله المجال لتدك “كتائب القسام – لبنان” كبرى مستعمرات إصبع الجليل؛ أي كريات شمونة برشقة من الصواريخ أدت إلى إشعال النيران قي أماكن عامة فيها. وعليه، ظهر أن رد حزب الله تجنب من جهة قتل مستوطنين مدنيين تحاشياً لإعطاء نتنياهو حجة دعوة الأميركيين للحرب ضده وضد طهران؛ ولكنه من جهة ثانية ضمن رده رسائل خطرة وقوية وعدم مترددة لإسرائيل تقول أن الحزب قادر على تطوير عنوان المواجهة، بل هو بدأ فعلياً بتطويرها، وذلك من خلال إضافة معنى ثان لها إلى جانب عنوان إشغال الجبهة الجنوبية، وهو معنى بدء اشتباك طويل هدفه استنزاف الجبهة الشمالية عبر توسيع نطاق المواجهة اليومية عليها.
وضمن هذه النقطة، يلاحظ خبراء عسكريون أن حزب الله منذ ما بعد جريمة قتل أطفال عيناتا الثلاثة، انتقل فعلياً من استراتيجية الاكتفاء بالمواجهة بهدف إشغال الجبهة الجنوبية ودعم غزة، إلى استراتيحية تضيف لهذين الهدفين هدف ثالث قد يكون أهم وهو اتباع تكتيكات عسكرية ترمي بشكل عام إلى استنزاف الجبهة الشمالية، وترمي بشكل خاص إلى إضعاف قدرات هذه الجبهة على القيام الآن وفوراً بشن حرب شاملة ضد لبنان..
.. بمعنى أوضح فإن حزب الله ينفذ حالياً استراتيجيتين في جنوب لبنان: الأولى: القيام بمواجهات عسكرية لإشغال الجبهة الجنوبية ولدعم مقاومة غزة.. وهذا الجزء يتعلق بإسهامه في حرب طوفان الأقصى..
الاستراتيجية الثانية وهي تطورت خلال الأيام الأخيرة وخاصة بعد جريمة قتل الاطفال الثلاثة في عيناتا؛ وهي تهدف إلى إعاقة قدرة الجبهة الإسرائيلية الشمالية على توجيه حرب شاملة ضد لبنان، أقله في المدى المنظور. وهذا الهدف صاغه الحزب ليرد به عملياً على تفكير نتنياهو ووزير الدفاع غالانت ببدء حرب فوراً مع لبنان.
لقد توجه الحزب ضمن استراتيجيته الثانية نحو جعل جهود استعدادات وتحضيرات جبهة إسرائيل الشمالية، غير قادرة على شن حرب الآن وفوراً ضد لبنان؛ وبكلام أدق قام الحزب بتقصد تركيز ضرباته ضد النسق اللوجستي الاستعدادي التجسسي الاستخباراتي التقني في جبهة الشمال؛ كونه النسق الذي يمكن إسرائيل من إعطاء التطمين للبدء بشن الحرب ضد لبنان فيما لو أراد المستوى السياسي الإسرائيلي ذلك.
وفي هذا المجال يقول محللون عسكريون أن المواجهات التي قام بها الحزب في جنوب لبنان، ليس مؤكداً أنها حققت نتائج ملموسة بموضوع إشغال الجيش الإسرائيلي عن الجبهة الجنوبية؛ ولكنها لحد ملموس نسبياً حققت هدف اعتراض نسق استعداد الجبهة الشمالية الإسرائيلية للبدء فوراً بشن حرب على لبنان، وذلك من خلال نجاح استراتيجية الحزب، أولاً بضرب نسق استعداد الجيش الإسرائيلي اللوجستي التجسسي على الجبهة الشمالية، وثانياً بإشغال قطاعات الجيش في الشمال باستراتيجيات حماية نفسها، وإعادة ترتيب تموضعها على نحو دفاعي وليس هجومياً؛ نظراً لاتخاذ الحزب وضعية تكتيكات الهجوم وليس الدفاع، وذلك على طول الجبهة من الناقورة حتى شبعا. ويلاحظ هذا المنحى لدى الحزب من خلال إصداره كل يوم ما معدله ما بين ٨ إلى ١١ بياناً عسكرياً حول العمليات التي ينفذها يومياً ضد تحشدات ومواقع العدو.
ولقد أسفر هذا الواقع الجديد الذي نتج بعد شهر من بدء المواجهة على الجبهة الشمالية عن التالي:
– انتقال تموضع الجيش الإسرائيلي بنسبة عالية من الاستعداد للهجوم إلى التكيف مع تلبية احتياجات الدفاع؛ خاصة بعد قيام الحزب بضرب عيون الجيش الإسرائيلي الخاصة برصد حركة مقاتليه؛ وهي العيون المتمثلة بمنصات الرصد والتصوير والاستشعار التي كانت إسرائيل نصبتها على طول الحدود مع لبنان.
وضمن هذه المهمة يلاحظ أن الحزب لم يكتف “بضرب عيون الجيش الإسرائيلي هذه”، بل جعل أهم أهداف عملياته الراهنة هو منع إسرائيل من إعادة تفعيل هذه العيون، وذلك من خلال ضرب أي محاولة يقوم بها الجيش الإسرائيلي لإعادة نصب كاميرات الرصد وأجهزة التتبع والاستشعار على خط الحدود. ومؤخراً قتل وأصاب الحزب ثلاثة عمال من شركة كهرباء إسرائيل حاولوا إصلاح منصات تجسس عطلها قصف حزب الله.
– خلال الفترة الأولى من المواجهات على الجبهة الشمالية برز تحد مهم واجهه حزب الله، تمثل بأن إسرائيل أدخلت تقنيات تكنولوجية جديدة تسهل عمليات اصطيادها لمقاتلي الحزب خلال أدائهم للمهمات القتالية. ولكن الحزب من خلال تعمق المواجهة، وجد لحد غير قليل حلولاً لمواجهة هذه التقنية، الأمر الذي قلل من الكلفة البشرية العالية التي دفعها خلال بدايات المواجهة؛ ورفع بالمقابل من كلفة المواجهة في الشمال على الجيش الإسرائيلي، الأمر الذي سمح ببدء مرحلة انتقال المواجهات على الجبهة الشمالية بالتدريج، من مواجهات ذات غرض واحد إلى نوع من الاشتباك الاستراتيجي الذي تصح عليه تسمية “حرب استنزاف للجبهة الإسرائيلية الشمالية” ب بأكثر مما يصح عليها تسمية “حرب إلهاء وإشغال للجبهة الإسرائيلية الجنوبية”.
– ان الفكرة الرئيسة التي يلفت إليها خبراء عسكريون تقع في أن حزب الله بدأ يقرأ عبر حرب غزة؛ ما جعله يغير قواعد الاشتباك مع إسرائيل؛ إذ أنه في مرحلة ما بعد حرب غزة لم يعد يكفي النوم على وسادة توازن الرعب بل صار المطلوب المبادرة بشن اشتباك استنزاف يومي لإشغال قدرة جبهة إسرائيل الشمالية وإعاقة توجهها لمراكمة تحضيرات تساعدها على شن حرب مباغتة على لبنان.. وبهذا المعنى فإن مواجهات جنوب لبنان مع إسرائيل قد تتحول إلى مسار دائم يستمر حتى بعد توقف حرب غزة؛ لأن أهداف مواجهات الحزب مع إسرائيل في الجنوب لم تنحصر بسبب واحد، وهو دعم غزة، بل صار لها هدف آخر أهم، وهو إشغال الجبهة الشمالية الإسرائيلية بهدف منعها من جمع إمكاناتها تحضيراً لغزو لبنان.
.. باختصار، لقد تغير الهدف الاستراتيجي الكامن وراء فتح الحزب للمواجهات العسكرية مع إسرائيل في جنوب لبنان.. فبدل أن يكون الهدف هو إشغال الجيش الإسرائيلي لعرقلة حربه على غزة؛ أصبح أيضاً إشغال الجيش الإسرائيلي في الشمال لعرقلة استعدادته للحرب ضد لبنان!!