الهديل

  يا…ولاد الحلال…؟

كتب الشيخ مظهر الحموي

رئيس لجنة الدعوة والمساجد وعضو اللجنة القضائية في المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى

 

رحم الله الأيام الخوالي زمن التراحم والتضامن ، عندما كان يستوقفنا في تجوالنا في أحياء طرابلس الداخلية صوت المنادي في المفترقات ، وهو يرفع عقيرته بالنداء ، يهتف بصوت جهوري : يا…ولاد الحلال عندنا ولد ضائع ، من يجده فليوصله إلى أقرب مخفر أو إلى الجامع المنصوري الكبير وله الأجر والثواب. ثم يردف بالإعلان عن إسمه وعمره ومواصفاته وملابسه ليتابع طريقه ونداءه في زقاق آخر ؟؟

وكنت ترى المارة جميعا واصحاب المحلات التجارية يصيخون السمع الى هذا النداء فيندفع العديد من أصحاب الشهامة والغيرة ، وقد كانوا كثرا والحمد لله ، يندفعون في الحارات والأزقة ومداخل المنازل يفتشون عن هذا الولد الضائع ليعثروا عليه بعد فترة وجيزة آمنا في أحد البيوت الكريمة وقد آوته وهدَّأت من روعه وأطعمته ، أو في أحد المحلات التجارية يتناول الطعام هادئا ينتظر صاحب المحل من يتعرف الى هذا الطفل التائه .

وكم حري بنا في هذه الأيام أن نستعيد مثل هذا المنادي ليطلق العنان لحنجرته في أرجاء هذه الأمة بأسرها بهذا النداء : يا…ولاد الحلال عندنا بلد ضائع إسمه لبنان ، من صفاته أنه كتب عليه أن يكون بلد الفسيفساء من كل جنس ولون بشري ، وهو شبيه بجمال وحسن يوسف عليه السلام ، وهذه نقمة أبتلاها من غيرة إخوته والتي سببت له أن ألقوه في غياهب جب المحن والأزمات والصراعات الداخلية والخارجية منذ عقود ، فمن يا…ولاد الحلال ينقذ هذا اللبنان التائه الضائع.

ونتوخى أن يتابع هذا المنادي المزيد من مواصفات هذا الوطن الضائع ،الذي لم يقر له قرار ولا إستطاع أن يهدأ أو يستكين حتى الآن.

ونتوخى أن يتابع هذا المنادي المزيد من مواصفات هذا الوطن الضائع والأسباب التي أدت إلى ضياعه فيتوجه بصوته نحو الشرق والغرب حانقا ويقول : أنتم سبب ضياعه وتشرده وزوغانه بعد أن عمدتم الى تأليبه على أهله وقومه وعشيرته ، فما عاد يقر له قرار ، وقد عبثتم بعقله ومفاهيمه وهويته ، حتى استحال تائها منفصم الشخصية ، فأنتم أُسُّ الداء وسبب البلاء ، وأنتم من خطفتم هذا المدلل بين اشقائه ، وعليكم تقع مسؤولية إطلاق سراحه، وكفى ما أصابه على أيديكم من عبث ومعاناة وتشتت .

وطبعا لن يستجيب أحد لهذا النداء ، ولن يندفع أحد لإعادة هذا الوطن ، وهل يمكن أن يتخلوا عن هذه الرهينة الثمينة التي يتفنون في إبتزازها من أجل تمرير شروطهم ومصالحهم ؟

وسيبقى هذا الوطن – على المدى المنظور – مخطوفا ولن يدعه أحد طليقاً حراً سليماً معافى ، وسيظل رهين المحبسين : الإقليمي والدولي إذا لم نبادر نحن الى إنقاذه وإستعادته.

هي مهمة ساستنا الذين نأمل منهم أن يستعيدوا رشدهم ويعودوا الى صوابهم ، ولكن علينا أن نوالي نداءنا مع هذا المنادي حتى يستشعروا ولو لحظات ما قصروا بحق وطنهم وشعبهم ، فهل سيتدبرون يوما سوء تقصيرهم بهذا الوطن ليتداعوا جميعا الى اللحظة التاريخية التي يتنازلون فيها عن تعنتهم وشعاراتهم الملتبسة ، وليعودوا الى حضن وطنهم ويعود الوطن التائه إليهم.

على هذا المنادي أن يستصرخ أولا الحلال من أهل البيت ليطرحوا عنهم الإنكفاء واللامبالاة ويتجرأوا على التصدي لكل من أسهم في ضياع هذا البلد فيردعوه عن غيه وصلفه ، فنحن أم الصبي ، نحن الغيورون على هذا الوطن ولن نسمح بذوبانه ، فليقلها كل من يهمه مستقبل عياله وأمنه وإستقراره .

على هذا المنادي أن يقرع آذان الأكثرية غير الصامتة وهم فعلا أكثرية وفاعلة لو كانوا يعلمون ، لكنهم ما يزالون هيابين ويخشون بغير وجه حق ، أن يوصم تحركهم وإحتجاجهم على هذا الوضع بأنهم مع هذا الفريق أو ذاك.

بلى، يمكن للمثقفين والمستنيرين مهما إختلفت آراؤهم وتطلعاتهم أن يجدوا قواسم مشتركة وأرضية موحدة ، للحفاظ على الوطن والمؤسسات الدستورية ، والحرص على الدعوة والحوار وإحترام الآخر وعدم السماح للشارع بأن يستلبهم دورهم .

ونطمح الى إنتفاضة الإقتصاديين ورجال الأعمال والصناعيين والتجار ليزعقوا في وجه الذين خطفوا الأمن الإقتصادي الإجتماعي والمعيشي ، وسلبوا لقمة العيش والسيولة بكل إصرار،  وانهكوا إقتصاد البلد دون رحمة أو شفقة ، ونأمل أن يلتفت المجتمع المدني الى نداء هذا المنادي فتأتلف المهن الحرة والعمالية في لقاءات مكثفة متوالية ، بعيدا عن مجرد بيان رفع العتب ، بل أن تكون إجتماعات مفتوحة حتى لا يتركوا الساحة للغوغاء يقرون المزيد من الكوارث لهذه البلاد .

وعلى الجمعيات الأهلية والمجالس البلدية والإختيارية والنسائية والكشفية والطلابية والشبابية ، أن يهبوا هبة رجل واحد ليبرئوا ذمتهم من اي تقصير بحق وطنهم ومجتمعهم وشعبهم.

إن على المنادي الذي إستذكرناه أن يكون هذه المرة أشد إنذارا وهو يوجه نداءه إلى الجميع ، داخل لبنان وخارجه، أنه إذا لم يتم إستعادة هذا الوطن حضوره ووجوده ، فإن مسلسل الضياع سوف يطاول العديد من الأوطان والبلاد المجاورة .

المهم أن نكون يقظين وحذرين مما يحاك لهذا البلد من مخططات ومؤامرات تؤدي فعلا إلى إستمرار ضياعه وزعزعة كيانه ومؤسساته تمهيداً لتفكيك عراه وتفسيخ دعائمه ، بل ربما إزالته من الخارطة ، وعندها لن تجدي المحاولات المخلصة إن وجدت.

وأعذرونا لتشاؤمنا فما نراه لا يبشر سوى بالكآبة والغيوم الملبدة وإستمرار الضياع..

ألا رحم الله منادي أيام زمان ،وكم نحن الآن في أمس الحاجة الى أمثاله لإنقاذ هذا البلد الضائع

 

Exit mobile version