خاص الهديل:
لم يكن قرار واشنطن بوضع الفيتو على قرار الأمم المتحدة الداعي لوقف الحرب في غزة مفاجئاً؛ بل كان متوقعاً، ولكنه مع ذلك كان صادماً.. وكان أيضاً أكثر من خطر.
كان صادماً لأنه شكل مفاجأة للضمير العالمي الذي يشار إليه إصطلاحاً “بالإنسانية المعاصرة”.. والتي تم الإشارة إليها على مدى الشهرين الماضيين اللذين هما عمر حرب غزة، من خلال خروج مئات آلالاف من المتظاهرين المحتجين على الجرائم الإسرائيلية ضد أطفال غزة، وذلك في الكثير من دول العالم..
.. وأيضاً تم النظر إلى الفيتو الأميركي هذه المرة بوصفه خطوة أميركية متهورة وتدعو للقلق الدولي وليس فقط للإستغراب الأخلاقي والسياسي، ومرد ذلك يعود للأسباب الاستراتيجية العالمية التالية:
أولاً- خلال حروب عدة شهدها العالم وكان يجري في خلالها ارتكابات إنسانية، كانت هناك داخل الولايات المتحدة الاميركية أصوات سياسية استراتيجية رزينة توصي صناع القرار الأميركي بأن يتنبه خلال رسم سياسته في مجلس الأمن إلى أهمية أن تحافظ واشنطن على بقية مصداقية للأمم المتحدة ومؤسساتها؛ والسبب وراء ذلك ليس حب الأميركيين للأمم المتحدة ومبادئها عن العدالة الدولية؛ بل مصلحة أميركا ببقاء دور هذه المؤسسة الدولية نظراً لكونها تخدم بالمحصلة وبشكل ذكي سياسات أميركا الدولية، وكونها تسبغ على النفوذ الأميركي الدولي شرعية دولية..
وكل هذا الفهم لدور الأمم المتحدة كان يدعو أجواء أميركية استراتيجية لنصيحة رؤساء البيت الأبيض بأن يحافظوا على نسبة من المظهر المعنوي للأمم المتحدة بهدف جعلها مؤسسة مقبولة من شعوب العالم ولو بالحد الأدنى..
والواقع أن ما حدث أمس هو أن الفيتو الأميركي عرى أكثر الأمم المتحدة من كل الشعارات التي ترفعها والتي تشكل المبررات الأخلاقية والقانونية لوجودها؛ وبالأساس دمر الفيتو الأميركي أمس أبرز مهمة للأمم المتحدة تبرر تأسيسها، وهي “حماية المدنيين”، و”الحفاظ على الاستقرار والسلم الدوليين”.
ونظراً لكون الفيتو الأميركي أطاح أمس بمبرر نشأة الأمم المتحدة وهو بالأخص حماية المدنيين، وحماية السلم الدولي؛ فإن العنوان العريض الذي تم وضعه أمس لنتائج جلسة مجلس الأمن كان التالي: دخول العالم مرحلة ما بعد الأمم المتحدة!! أي “مرحلة الفوضى” كما أسماها أمين عام الأمم المتحدة.
ويجدر في هذه الجزئية التوقف عند نقطة جوهرية مطروحة في دوائر الخارجية الأميركية وهي أنه كان هناك دائماً مصلحة لواشنطن بأن تظهر بمظهر الحامية للأمم المتحدة وأنها “والد العمل الجماعي الدولي”؛ لأن ذلك يكرس شرعيتها كقطب عالمي أوحد؛ ولكن أمس خرج قطار هذه الاستراتيجية الاميركية عن خط سيره لتنزلق أميركا إلى مرتبة أنها تمارس مهمة قاطع الطرق وقاتل المدنيين داخل أروقة الأمم المتحدة وفي مجلس الأمن..
ثانياً- صحيح أنه ليست هذه المرة الأولى التي يخذل فيها التصويت في مجلس الأمن الضمير الدولي ويظهر ازدواجية المعايير بداخله؛ ولكن الصحيح أيضاً أنه هذه أول مرة يظهر فيها بوضوح أن الأمم المتحدة هرمت أخلاقياً وحتى سياسياً، لم تعد مؤسسة قادرة على الحياة؛ وذلك لعدة أسباب؛ ولكن يظل أبرزها أن جلسة الأمس كانت تاريخية لأنها انعقدت بموجب استخدام الأمين العام للأمم المتحدة المادة ٩٩ التي تخوله الدعوة لعقد جلسة حينما يرى أن الاستقرار العالمي وحقوق المدنيين، مهددة، وأن هناك موجبات ذات صلة بمبادئ الأمم المتحدة، تنتهك.
ولقد شرح الأمين العام للأمم المتحدة في جلسة أمس الأسباب الموجبة التي جعلته يلجأ لاستخدام المادة ٩٩؛ ومع ذلك فإن واشنطن تحدت المادة ٩٩ التي يتم استخدامها لأول مرة في تاريخ الأمم المتحدة.. وعليه فإن المعنى السلبي للفيتو الأميركي كان هذه المرة “معنى تاريخياً” وله نتائج دولية سيئة تؤشر جميعها إلى نهاية مرحلة عالمية وبداية مرحلة عالمية جديدة لن يكون هناك فيها أي اعتبار ملحوظ للأمم المتحدة ولا لمجلس الأمن بواقعه الحالي؛ وهذا ما دفع أمين عام الأمم المتحدة ليقول أمس تعقيباً على الفيتو الأميركي “أن العالم قادم على مرحلة من الفوضى”.
ثالثاً- الفيتو الأميركي الذي صدر أمس لم يكن فقط بوجه إرادة العالم الراغبة بوقف مجزرة غزة، بل أيضاً كان موجهاً ضد مكانة الموقع المعنوي للأمين العام للأمم المتحدة الذي احتمى بالمادة ٩٩ حتى يصحح مسار الخطأ الدولي الذي يحدث اليوم في غزة.
.. وعليه فإن العالم حالياً أمام خيارين إثنين: إما أن يستسلم ويتكيف مع أخطار دخوله في مرحلة ما بعد الأمم المتحدة، أو مرحلة الفوضى بحسب وصف الأمين العام للأمم المتحدة؛ وإما أن يذهب للخيار الثاني، وهو الدخول في معركة تصحيح التمثيل داخل مجلس الأمن بحيث لا تبقى واشنطن تمارس الفيتويات السوداء فيه. وهذا يعني توسيع قاعدة القرار في مجلس الأمن، وإضافة دول جديدة صاعدة إلى منظومته؛ بدل تركه محصوراً بالدول التي انتصرت في الحرب العالمية الثانية..