خاص الهديل:
إخفاق الوحدة العسكرية الإسرائيلية في عملية إطلاق الجندي الإسرائيلي من أيدي حماس، تشكل داخل حرب غزة “هزيمة قائمة بذاتها لإسرائيل”.. ونتائج هذا الإخفاق لا يقاس فقط بالخسائر المباشرة التي أسفرت عنها العملية؛ ولا حتى بالمعنى العسكري المباشر لها؛ بل يقاس بنتائجها النفسية على الجبهة الداخلية؛ وأيضاً على معنويات الجيش الإسرائيلي؛ وعلى مجمل متانة العقيدة العسكرية الإسرائيلية التي تشكل عملياً القلعة التي تحتمي كل فكرة “دولة إسرائيل” بداخلها.
.. وبإستعراض لكل هذه العناوين ذات الصلة بفشل عملية إطلاق الجندي الإسرائيلي؛ يتبين أن كابينيت الحرب كان يريد انتصاراً لوجهة نظره بخصوص أن أفضل طريقة لإطلاق الاسرى الإسرائيليين، هي الضغط العسكري على حماس، وهي بالتالي إستمرار العملية العسكرية البرية. وفي ذهن القائلين بهذا الرأي توجد خلفية أبعد وهي يقينهم أن إسرائيل لا يمكنها أن تعيش في وقت واحد وفي مكان واحد مع فكرة أو مع شعور الجيش المهزوم؛ فمثل هذا الشعور سيؤدي إلى الهجرة اليهودية المعاكسة، وسيعاظم شعور المجتمع الإسرائيلي بعقدة إنكشاف الحماية عنه.
ويلاحظ في هذا المجال أن عملية إطلاق الجندي الأسير الفاشلة، جاءت بعد فترة وجيزة جداً من حدوث اللقاء الصاخب بين نتنياهو وأهالي الأسرى الإسرائيليين، وأيضاً بعد اللقاء غير الناجح بين غالانت وأمهات الأسرى.
وكانت مفهومة الخلفيات التي جعلت الإعلام العبري يستطرد بعرض تسريبات عن ما دار في هذين اللقائين؛ حيث ركز بالنسبة للقاء مع نتنياهو على قوله لأهالي الأسرى “أنا احترمتكم أكثر من اللازم”، وأراد الإعلام من التركيز على هذه العبارة إظهار فكرة أساسية، وهي أن القائد الذي يقود إسرائيل وهي بحالة حرب، هو رجل عصبي وسريع العطب ومصاب بإضطراب عصابي. والعبارة الثانية التي ركز أيضاً الإعلام العبري عليها، هي ما قالته له إحدى أمهات الأسرى: “أنت فشلت”. ومن خلال هذه العبارة أراد الإعلام العبري وضع كل قصة نتنياهو قبل الحرب وبعد الحرب، داخل خاتمة عنوانها نطق حكم الشعب وأهالي الضحايا عليه: لقد فشلت وتستحق المحاسبة والحكم عليك.
لم يكن لقاء نتنياهو مع الأسرى، وما جرى فيه من وقائع، مجرد حدث عادي داخل الواقع الإسرائيلي المتسم في هذه اللحظة بأنه “مستفز” و”قلق” و”مثقل بالنظر إلى أفق غير واضح وليس فيه يقين”.. فهذا اللقاء أبلغ نتنياهو بالنهاية التي حكم عليه بها المجتمع الإسرائيلي، وهي أنه “فشل بحماية إسرائيل”.. وأهمية هذا الحكم أنه موجود بشكل خاص عند ما يسمى “بالقاعدة الإجتماعية الإسرائيلية المتضررة مباشرة من الحرب” (أهالي الأسرى والقتلى الجنود، الخ..)، التي من سماتها أن نطاقها يتسع مع كل يوم جديد تستمر فيه الحرب.
.. وعلى هذا، فقد بات نتنياهو محاصراً داخل لعبة حفر قبر نهايته السياسية بنفسه؛ فهو من جهة يهرب من وقف الحرب كون بدء وقف النار الشامل سيعني بدء مسار محاسبته عن الفشل؛ وبالمقابل فإن إستمراره بالحرب يعني استمرار سقوط المزيد من الجنود القتلى، ما يعني تلقائياً اتساع القاعدة الإجتماعية داخل المجتمع الإسرائيلي التي تريد محاسبته والتي تتهمه بالفشل الاستراتيجي وبتعريض إسرائيل لخطر الزوال..
لقد دخل نتنياهو في دائرة مغلقة أهم سماتها أنها تضيق خناقها عليه: فالحرب بالنسبة إليه لم تعد هروباً إلى الوراء، بل أصبحت تزخيماً للائحة خطاياه والإتهامات ضده؛ فيما وقف الحرب هي أسرع وصفة لجعل خناجر خصومه تثقله بالجروح القاتلة.
وضمن هذا السياق لم تكن من دون خلفيات أن تنشر صحيفة إسرائيلية أمس خبراً يقول أن عدد الإصابات بين الجنود الإسرائيليين بلغ نحو ٤ آلاف جريح ربعهم في حالة إعاقة..
وكان لهذا الخبر وقع الصاعقة على المجتمع الإسرائيلي، وكان ظاهراً أن هناك تقصداً لأن يأتي نشره في توقيت ما بعد الإعلان عن مقتل الجندي الإسرائيلي نتيجة فشل عملية الجيش بإطلاقه من احتجاز حماس له.
..والفكرة الأساسية هنا تنبع من حقيقة أن المجتمع الإسرائيلي لديه حساسية بالغة تجاه مقتل الجنود؛ وهي حساسية تفوق موقفه من مقتل المدنيين الإسرائيليين. والسبب في ذلك هو أن مقتل المدنيين يشعر المستوطن الإسرائيلي بالثمن القاسي، ولكن مقتل العسكريين يشعره بإنكشاف الحماية عنه.. ومن الأدلة على ذلك، ليس هجرة مستوطني غلاف غزة من مستوطناتهم؛ بل إعلانهم أنهم لن يعودوا إليها حتى لو توقف إطلاق النار وانتهت الحرب، بل هم لأول مرة ربطوا عودتهم إلى مستوطناتهم بشرط نجاح الجيش بتحقيق النصر الحاسم على حركة حماس. ووضع مستوطني غزة لهذا الشرط، يعني أمراً واحداً، وهو أنهم يشعرون بعقدة “عدم الحماية” نتيجة هزيمة الجيش الإسرائيلي في ٧ أكتوبر؛ وأن هذه العقدة لديهم لن تزول بمجرد عودة الأمن وتوقف الحرب، بل شرط زوالها يتحقق حصراً برؤيتهم أن الجيش يحقق النصر الكامل على القوة التي هزمته..
.. قصارى القول هنا هو أن المجتمع الإسرائيلي لا يمكنه العيش داخل إسرائيل مع استمرار وجود فكرة الجيش المهزوم؛ ولذلك فإن ثلاثة أرباع حرب إسرائيل الراهنة في غزة، هي حرب البحث عن انتصار.. عن مكان داخل غزة يمكن للجيش الإسرائيلي أن يغرس فيه علم الإنتصار، وذلك على نحو يقنع المجتمع الإسرائيلي بأن جيشه انتصر فعلاً وبالدليل الملموس، وأن الحماية عادت إليه كاملة.
وما يحصل اليوم هو محاولة واشنطن مد الكيان العبري “بأكبر عملية تعويض حمائي للإسرائيليين”؛ وهدف هذه العملية التي تقوم بها الأساطيل الأميركية والغربية في البحرين المتوسط والأحمر هو “شراء الشعور بالحماية الإستراتيجية للمجتمع الصهيوني الذي فقد ثقته بحماية الجيش الإسرائيلي له”.. ومثل هذا الأمر يحدث لأول مرة في تاريخ إسرائيل، وذلك منذ ابتداع نشأتها حتى اليوم. وقد تستطيع إسرائيل تحمل كارثة طبيعية، ولكنها لا تستطيع تحمل انهيار ثقة مجتمعها ومستوطنيها بقدرة الجيش على حماية الدولة التي وجدت في المكان الصعب وفي المنطقة الخطأ، بحسب ما بات يعتقد الكثير من الإسرائيليين..