خاص الهديل:
منذ ٧ أكتوبر، تستمر إدارة بايدن بالثبات على موقفين إثنين لا تحيد عنهما حتى الآن، ولا يبدو في الأفق المنظور أنها ستحيد عنهما:
الموقف الأول هو رفض وقف النار في غزة والتمسك بهدف القضاء على حماس.. وخلال التصويت الأخير في مجلس الأمن على قرار وقف النار الإنساني، ظهر بوضوح أن استمرار الحرب الإسرائيلية ضد غزة، هو قرار أميركي بالدرجة الأولى يتقاطع مع وجود مصلحة سياسية لنتنياهو باستكمال الحرب.
الموقف الأميركي الثاني الذي تثبت إدارة بايدن عليه، هو منع توسيع ميدان حرب غزة، وتحديداً منع امتدادها إلى لبنان؛ وقمع أي تفكير يولد داخل كابينيت الحرب بتحويل مواجهات إسرائيل مع الحزب في جنوب لبنان، إلى حرب شاملة على غرار ما يحدث في غزة..
وحتى هذه اللحظة يستمر تفاعل الحريق الكبير الذي تشهده المنطقة، وفق الحدود والقواعد والسقوف التي وضعته له إدارة بايدن؛ أي وفق معادلة أميركية ثلاثية: حرب مفتوحة ضد حماس؛ لا حرب مفتوحة ضد لبنان؛ احتواء النار في العراق واليمن.
ويمكن القول بكثير من الثقة أن واشنطن تنجح حتى هذه اللحظة بجعل حريق غزة يشتعل داخل حدود معادلة بايدن الثلاثية هذه. ولكن أبرز ضحايا هذه المعادلة هو المدنيين الفلسطينيين الذين تحكم عليهم سياسة بايدن تجاه حرب غزة بالإعدام، ولكن وفق عملية “قتل أقل” من تلك التي تعتمدها إسرائيل؛ فهناك مصطلحات دبلوماسية أميركية مستغربة كونها تستخدم لأول مرة في تاريخ الخطاب السياسي للدول، كعبارة “التوصية بالتقليل من القتلى”؛ أي أن بايدن سيكون موافقاً على تصرف لإسرائيل فيما لو هي قتلت نصف عدد القتلى الذين تقصفهم يومياً في غزة!!.
وبكل الأحوال فإن معادلة بايدن الثلاثية تجاه حرب غزة، تؤكد على نحو حاسم حقائق كان هناك جدل حول مصداقيتها طوال فترة ما قبل حرب طوفان الأقصى.
أبرز هذه الحقائق أن قرار الحرب الإسرائيلي في المنطقة هو أميركي من أوله إلى آخره.. وهذه الحقيقة اختبرها لبنان في العام ٢٠٠٦؛ آنذاك، وبعد نجاح عملية حزب الله بأسر عدد من الجنود الإسرائيليين، لم يكن لا حزب الله ولا إسرائيل تريد فتح حرب كرد فعل على هذه العملية؛ ولكن رغم موقفهما، وقعت الحرب لأن واشنطن كانت تريدها. وتظهر مقابلات لاحقة مع وزير خارجية قطر حينها، أن قرار وقف حرب تموز ٢٠٠٦ اتخذته واشنطن أيضاً؛ وكانت إسرائيل في موقع المتلقي لما تريده أميركا طوال فترة الحرب منذ بدايتها حتى نهايتها.
آنذاك برزت داخل حزب الله قناعة تقول أن الحزب عندما خطط لعملية أسر الجنود الإسرائيليين عام ٢٠٠٦، كان متيقنا بأن إسرائيل غير جاهزة للحرب؛ وثبت للحزب بعد عملية أسر الجنود أن تقديره كان صائباً؛ ولكن الخطأ الاستراتيجي الذي وقع فيه تقدير الحزب آنذاك تمثل في أنه اكتفى بمراقبة جهوزية إسرائيل للحرب، ولم يراقب ما إذا كانت أميركا ترغب بالحرب أم لا؟؟.
ويبدو أن أمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله الذي قال بعد حرب تموز: “لو كنت أعلم”؛ أصبح اليوم بمناسبة حرب غزة “يعلم” أن نتنياهو وغالانت قد يكونان يرغبان بالحرب ضد لبنان؛ ولكن إدارة بايدن – وهذا هو الأهم – لا تريد الحرب ضد لبنان؛ وعليه فإن المواجهات في جنوب لبنان، أقله ضمن الأفق الحالي، لن تتحول إلى حرب..
وفيما تستمر الحرب في غزة تحت سقف انسداد الأفق السياسي ورفض واشنطن التفاوض على وقف النار، فإن المواجهات في جنوب لبنان وعلى الحبهة الشمالية (حسب التسمية الإسرائيلية) تجري تحت سقف تبادل رسائل التفاوض غير المباشرة بين إسرائيل والحزب بواسطة الفرنسي تارة؛ وتارة أخرى بواسطة إيصال الرسائل للحكومة اللبنانية حول مطالب إسرائيل ورد حزب الله عليها. ولكن ضمن كل لعبة التفاوض الجارية “على الحامي” – وفق التعبير اللبناني – يظل أهم مشهد فيها هو ما حمله آموس هوكشتاين للبنان عن ثمن عدم الحرب المطلوب دفعه؛ وهو إتمام الترسيم الحدودي البري وجعله استكمالاً لعملية الترسيم البحري.. ومن خلال آخر كلام منسوب إليه؛ وذلك عندما قال أن الفرنسي ليس دقيقاً في التعبير عن مستقبل الـ١٩٠١؛ ظهر أن هناك توجهاً جديداً لهوكشتاين مفاده إعلام لبنان بأن ما يقوله الأميركي بهذا الخصوص هو ما يجب أن تعتمده بيروت بوصفه المقترح الحقيقي..
والواقع أنه منذ زيارة هوكشتاين الأخيرة للبنان؛ ومنذ قوله لاحقاً أن الفرنسي ليس دقيقاً في نقل مقترح المطلوب دولياً بخصوص جنوب الليطاني؛ فإن الوضع اللبناني دخل عملياً وفعلياً في مناخ اقتراب واشنطن من طرح عملية سياسية تجاه لبنان تبدأ من ترسيم الحدود البرية في الجنوب، وتنتهي بانتخاب فخامة الرئيس؛ وليس العكس.. وهذا يعني أن البلد علق على صليب استحقاق رغبة واشنطن بفصل أزمة لبنان عن نتائج حرب غزة أو عن مسارها؛ بمقابل أن حزب الله لا يريد التفاعل مع أي مسار سياسي خارجي تجاه لبنان، إلا بعد انتهاء حرب غزة. ويقع هذا الشرط لحزب الله أبعد من موضوع التضامن مع غزة ووحدة الساحات؛ فهو موقف ذو صلة بقناعة عند الحزب تفيد بأن عليه الانتظار لحين بدء تسويات المنطقة التي قد تنتج عن حرب غزة؛ وعليه فإنه من المهم للحزب أن يكون ضمن تسوية إقليمية مدعومة عالمياً، على أن يكون ضمن تسوية لبنانية داخلية.
ويفاد من كل ما تقدم أن أزمة الشعور الرئاسي صار رقمها المجازي على جدول الإهتمام الأميركي – الذي هو كل جدول الاهتمام الدولي والإقليمي – ١٦؛ وهو نفس رقم اهتمام الرئيس بري بموقع تأجيل تسريح قائد الجيش على جدول أعمال جلسة البرلمان المنتظرة.
لقد أعادت حرب غزة ومشاركة حزب الله الجزئية فيها، خلط أوراق الأزمة اللبنانية، وذلك من عدة زوايا: الأولى أعادت اهتمام واشنطن بلبنان ولكن وفق أجندة تنتهج الترتيب التالي لبنودها: أولاً التزام حزب الله بعدم توسيع المواجهات فوق ميدان الـ٥ كلم باتجاه أن تصبح حرباً شاملة؛ ثانياً وتالياً، إنشاء حراك يمهد لإطلاق مسار ترسيم الحدود البرية؛ ثالثاً وتالياً عدم السماح بحدوث شغور في قيادة الجيش؛ رابعاً وتالياً الالتفات لإنهاء الشعور الرئاسي.