خاص الهديل:
يبدو أن حرب غزة تتجه لتصبح حدثاً يجري في ظل حدث أكبر منه، إسمه حرب تأمين الملاحة في جنوب البحر الأحمر وباب المندب.
.. ومن ناحية نظرية فإن هناك مصلحة لغزة أن تبقى تحتكر واجهة الإهتمام الدولي والإقليمي؛ وأن لا ينافسها على ذلك أي حدث آخر، حتى لو كان الطرف الذي يصنع هذا الحدث، يقول أنه يفعل ذلك من أجل دعم صمود غزة، وفي سبيل تخفيف الضغط عنها وفك الحصار عليها.
إن خيار الحوثيين (أنصار الله) بالذهاب لتعطيل سلاسة الملاحة البحرية في أهم شريان تجاري في العالم؛ يهدف من وجهة نظرهم، ومن وجهة نظر “محور الممانعة” الى التالي:
– التهديد بتوسع الحرب فيما لو استمرت في غزة، وتحويلها إلى صراع إقليمي وإلى أزمة دولية..
– لفت نظر الغرب بخاصة والعالم بعامة إلى أن محور المقاومة المنقاد من إيران أو أقله المتكوكب حول طهران، لديه داخل ترسانته العسكرية في الشرق الأوسط، أوراق جيو سياسية استراتيجية تهدد الاستقرار العالمي الاقتصادي كله. والواقع أن استعمال ورقة إغلاق باب المندب بوجه الملاحة المتوجهة لإسرائيل، تحاكي في كثير من جوانبها المفاعيل الإستراتيجية لورقة استعمال النفط العربي في الصراع مع إسرائيل؛ وعليه فإن وضع مسدس باب المندب على طاولة قرار “محور المقاومة الإيراني”، بمقابل وضع إسرائيل وأميركا على طاولة قرارهما مسدس استئصال حماس وعدم وقف النار في غزة، سيؤدي إلى نشوء معادلة تسعى إليها طهران وجوهرها وضع القوة الجيوسياسية في المنطقة (الملاحة وتعدد الجبهات)، بوجه قوة الأساطيل الأميركية التي تحمي من جهة استمرار إسرائيل بالحرب، وتقمع من جهة ثانية أطراف محور المقاومة من توسيع حرب غزة وتحويلها لحرب إقليمية ومن ثم لأزمة عالمية.
.. ولكن بالمقابل تبرز خشية لدى دول المنطقة من أن خيار استخدام مسدس باب المندب والملاحة في البحر الأحمر، تحت مبرر الدفاع عن غزة؛ قد لا تفيد منه مقاومة غزة، بل قد يحقق نتائج عكسية تضر بغزة وبمصالح دول المنطقة، وذلك لعدة أسباب أساسية:
– قد يكون المتضرر الأول من تشويش الملاحة في جنوب البحر الأحمر هو قناة السويس المصري، وهو أمر يصب في المدى الإستراتيجي مع مصلحة إسرائيل ومصلحة قناة بن غوريون، الخ..
– ان فتح حرب الملاحة في باب المندب قد يشتت اهتمام الرأي العام الدولي المهتم بشكل متزايد “بثلاث نقاط ذهبية” للقضية الفلسطينية كونها تشكل بمجملها مصلحة استراتيجية لها ولصمود غزة؛ النقطة الأولى هي تعاظم إدانة “الشارع الدولي” ونخبه ودوله للجرائم الإسرائيلية في غزة، والمطالبة بوقف حرب إسرائيل عليها؛ النقطة الثانية هي إعادة النظر “بالقصة الإسرائيلية” حول أصل الصراع بين الصهيونية والفلسطينيين؛ والنقطة الثالثة هي الإدانة المتصاعدة داخل العالم وداخل أميركا وأيضاً داخل الحزب الديموقراطي، لموقف إدارة بايدن السلبي من وقف النار في حرب غزة..
.. وبحسب منطق دول المنطقة فإن هناك احتمالاً كبيراً أن تؤدي أحداث البحر الأحمر إلى إيقاف تبلور هذه النقاط الذهبية الثلاثة ذات الفائدة الكبرى لغزة وللقضية الفلسطينية، وانتقال الرأي العام الدولي بالتالي لإعطاء أولوية في اهتمامه وفي حراكه لمتابعة حدث يؤثر بشكل مباشر على اقتصاده.
وفوق كل ما تقدم تبرز خشية استراتيجية لدى العديد من دول المنطقة، من أن تكون واشنطن تتخذ من إجراء الحوثي ضد الملاحة البحرية، حجة تستخدمها حتى تحقق هدف تواجد عسكري لها في البحر الأحمر؛ يؤدي إلى وضع باب المندب تحت انتداب عسكري غربي وعالمي تقوده واشنطن.. إن مثل هذا التوجه الأميركي سيؤدي إلى مجيء القوى العالمية إلى البحر الأحمر، ما يهدد بعسكرة البحر الأحمر وهو الأمر الذي سيحول البحر الأحمر والمنطقة إلى ساحة صراع أساسية في الحرب الباردة الجديدة..
ومباعث هذا الخوف من عسكرة البحر الأحمر كثيرة، منها وجود قاعدة للصين في جيبوتي وتواجد قواعد كثيرة لأميركا في المنطقة؛ وعزم روسيا على توطين قواعد عسكرية لها في منطقة البحر الأحمر؛ إضافة للوجود الإيراني.. وبالأساس فإن بيئة البحر الأحمر مكتظة بالتواجد العسكري، وعليه فإن فتح الصراع الدولي فوق مياهه الاستراتيجية، لا يحتاج إلا لإشعال عود ثقاب؛ ويبدو أن حرب غزة ستؤدي دور عود الثقاب هذا!!..
وما يعزز المخاوف بشأن خلفيات الموقف الذي تتخذه أميركا بخصوص ما يحدث في البحر الأحمر، هو أنه يصعب على أحد في المنطقة أن يقتنع بأن واشنطن بحاجة لكل هذا الحشد العسكري الذي تدعو إليه، لمواجهة الحوثيين في البحر الأحمر؛ كون واشنطن تستطيع أن توجه رداً عسكرياً مناسباً لحجم تحدي الحوثي؛ ولكن إدارة بايدن تمارس منذ فترة بعيدة سياسة السكوت على الهجمات الحوثية في البحر الأحمر من أجل تكبير صورة خطر الحوثي، لتقوم بعد ذلك بتبرير نشر تحشد عسكري استراتيجي كبير لها في البحر الأحمر يناسب حجم هدف سيطرتها استراتيجياً على طرق التجارة العالمية وفق النسخة الجديدة لصراع الممرات التجارية بينها وبين الصين..