خاص الهديل:
آخر شيء تريده إسرائيل هو فتح جبهات حرب جديدة عليها؛ وعليه فإن تهديدات وزير الدفاع غالانت أمس للحوثيين لا يمكن النظر إليها بجدية.. فإسرائيل تستطيع إذا أرادت أن تنفذ ضربات جوية أو صاروخية ضد صنعاء؛ ولكنها لا تستطيع أن تضر بقدرات أنصار الله العسكرية لدرجة تمنعها عن الاستمرار بالتعرص للسفن الإسرائيلية خلال مرورها في البحر الأحمر.. حتى الآن بلغت خسائر إسرائيل على مستوى حركة الشحن التجارية عبر البحر الأحمر نحو ٥٠ بالمئة، وهذه النسبة مرشحة للتعاظم في حال استمر الحوثي بمطاردة حركة المرور التجاري ذي الصلة بإسرائيل في البحر الأحمر…
ومع هذا التطور اليمني الناتج عن تداعيات حرب غزة؛ تصبح تل أبيب أمام مسرح عمليات عسكرية مركب، وغاية في التعقيد كونه يتألف من عدة ميادين مباشرة وغير مباشرة؛ وكل واحد من هذه الميادين يطرح على أمن إسرائيل تحد مختلف عن الآخر: فجبهة البحر الأحمر التي يقودها الحوثيون في اليمن تضع إسرائيل داخل معادلة فرض حصار بحري على جزء مهم من تجارتها الخارجية، وتضع أوروبا التي هي الأكثر اعتماداً على شريان البحر الأحمر، أمام معادلة التدقيق بكلفة دعمها لإسرائيل؛ فيما جبهة الشمال في لبنان تضع إسرائيل أمام معادلة تقبل قواعد احتكاك عسكري مع حزب الله تتصاعد حدته بإضطراد، ما يجعل الجيش الإسرائيلي موجوداً على الجبهة الشمالية داخل معادلة أنه تحت “سقف الحرب، وفوق صفيح الاحتكاك”؛ ولا شك أن إقامته دخل معادلة عسكرية من هذا النوع، يفرض عليه توظيف موارد مواجهة الاحتكاك العسكري المتصاعد، والاستعداد بنفس الوقت لحرب غير مستعبدة.. وهذا وضع يصح عسكرياً وصفه بأنه أكثر من حرب إشغال للجيش والدولة في إسرائيل؛ بل هو يدخل في نطاق حرب الاستنزاف.
.. أما على جبهة الجولان السورية، فتواجه إسرائيل هناك حالة ترقب يسودها قلق السؤال عما إذا كان لايزال هناك إمكانية لتطبيق “قواعد الاشتباك المريح” التي كانت قائمة بين روسيا وإسرائيل فوق الميدان السوري، وذلك قبيل ٧ أكتوبر، وحتى قبل بدء بروز تداعيات حادة لحرب أوكرانيا على علاقة بوتين مع نتنياهو… انتهى زمن نوم إسرائيل في سورية على الوسادة الروسية المريحة.. وبنفس الوقت فإن حدث ٧ أكتوبر جعل جنوب دمشق منطقة خالية من أية ضمانات روسية لأمن إسرائيل.. ويوجه غالانت بشكل متتالي عمليات قصف جوي للمطارات السورية في إشارة تحذير بأن الجيش الإسرائيلي رغم انشغاله في غزة وفي الشمال مع لبنان، إلا أنه لا يزال له قدرة مراقبة حركة نقل السلاح لصالح حزب الله من إيران إلى لبنان عبر سورية. حتى الآن لا يزال الرد من سورية على هذه الغارات الإسرائيلية يأخذ نفس الأسلوب الذي كان سائداً قبل ٧ أكتوبر، أي احتوائها، وعدم دخول سورية في حرب مفتوحة مع إسرائيل.. ولكن بالنسبة لجديد حسابات الرئيس بشار الأسد، فهو يرى أنه بات يوجد اليوم تغير في موازين القوى يتسم بأن مؤشره يتحرك بقوة، وذلك على طريقة تشكل الزلازل تحت طبقات الأرض؛ وعليه فإن الأسد قد يجد في أية لحظة أن مؤشرات التحولات على مستوى موازين القوى في المنطقة، تدعوه لفتح ميدان القنيطرة والحدود مع الجولان المحتل بوجه إسرائيل… وتدرك تل أبيب هذا الاحتمال جيداً؛ ما يضطرها أيضاً لأن توظف موارد تناسب حجم جبهة استراتيجية قد تنفجر في أية لحظة..
إن الجبهة العراقية تعتبر بعيدة نسبياً في تأثيراتها المباشرة على اسرائيل، ولكن هذه الجبهة تنذر بأخطار سياسية استراتيجية ضدها. فاشتباك المقاومات الموجودة في العراق مع القواعد الأميركية هناك، هي رسالة واضحة لأميركا بأن كلفة دعمها المطلق لإسرائيل لم يعد من دون ردود فعل شعبية عربية وإسلامية عسكرية عليه. وهنا لا يدور الحديث عن عمليات تحاكي ١١ سبتمبر بل يتركز على سيناريو استنزاف قواعد واشنطن العسكرية في المنطقة؛ أي جعل الوجود العسكري الأميركي في العراق ومن ثم في المنطقة، غير مستقر، وموجود في بيئة معادية له. وتنظر إسرائيل لهذا النوع من التهديدات بوصفها الأخطر بنتائجها السياسية عليها، كونها قد تحمل واشنطن على المدى المتوسط لإعادة حساباتها بخصوص تقليد دعمها الأعمى لإسرائيل..
.. وإلى جبهة العراق، هناك أيضاً جبهة ثانية غير مباشرة، وهي جبهة الشوارع العالمية التي تشهد تسيير تظاهرات حاشدة، تتحول شعاراتها بإضطراد من إدانة إسرائيل، إلى إضافة شعار يدين أيضاً تغطية أميركا لجرائم إسرائيل ضد غزة. وهذه الحبهة تحمل مخاطر الضغط على قرار الدعم الأميركي لإسرائيل، خاصة وأن الشارع الأميركي هو جزء من هذه الجبهة..
إن أميركا تتجه شيئاً فشيئاً لتجد نفسها أمام حرب تفرض عليها التحرك للقيام بعدة مهمات استراتيجية في نفس الوقت: التحرك من ناحية لحماية إسرائيل الواقعة في كمين الجيوسياسي المعادي لها؛ والتحرك من جهة ثانية لحماية إسرائيل من نفسها نظراً لكونها منقادة من حكومة يمنية متطرفة؛ والتحرك من جهة ثالثة لحماية موقع أميركا الدولي الذي أصيب بأضرار بالغة من حرب غزة؛ والتحرك من جهة رابعة لإبعاد أي خطر استراتيجي على مصالح أميركا، قد ينمو بفعل اضطراب البحر الأحمر على عتبات باب المندب.
والواقع كل هذه التطورات والمخاطر يحركها عامل واحد، وهو رفض إسرائيل بدعم من أميركا وقف الحرب؛ ولذلك فإن مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان رسم خيار لواشنطن ولتل أبيب يؤدي إلى الاستمرار بتتبع هدف القضاء على حماس، وبنفس الوقت يؤدي لتفكيك الجبهات الأخرى المفتوحة ضد إسرائيل وأميركا دبلوماسياً؛ وهذا الخيار هو استبدال الحرب العسكرية ضد حماس وغزة، بالحرب الاستخباراتية الأمنية التي تتعامل مع أهداف نقطوية ولا تخلف خسائر بين المدنيين.. وتم إطلاق تسمية المرحلة الثانية من حرب غزة على خطة سوليفان هذه؛ ولكن حتى هذه الخطة التي تتحدث عن تخفيض كثافة الحرب فهي تحمل مخاطر أن تؤدي حرب الاغتيالات إلى حدوث ردود فعل عليها تشعل الحرب الإقليمية…