خاص الهديل:
تستمر العاصفة داخل الإعلام المحسوب على جبران باسيل كردة فعل عصبية من قبله، على قرار المجلس النيابي تأجيل تسريح العماد جوزاف عون لمدة عام.. وهناك رغبة جامحة لدى باسيل لتقويض النتائج السياسية لهذا القرار النيابي عبر الطعن به دستورياً. فباسيل يستهدف بالأساس من وراء كل حملته السياسية على تأجيل تسريح جوزاف عون، إظهار أن واقعة تصويت نحو سبعين نائباً لصالحه للبقاء على رأس قيادة الجيش، ليس لها أي معنى سياسي ذي صلة بفكرة أن يبنى عليها “جملة رئاسية مفيدة” مفادها أن هناك مرشحاً يعتد به لرئاسة الجمهورية.
ما يمكن أن يلفت باسيل هو أن قائد الجيش يتجاهل حملته الهجومية ضده، ولا يرد على اتهاماته.. قبيل تأجيل تسريحه؛ أطل باسيل على الإعلام وذكر اتهامات عديدة ضد قائد الجيش.. وانتظر باسيل ليعرف كيف ستؤثر اتهاماته بشكل سلبي على حظوظ تأجيل تسريح العماد جوايف عون.. ولكن الأيام التالية حملت لباسيل أخبار موافقة البرلمان على بقاء قائد الجيش عاماً إضافياً في موقعه.
المشكلة هنا ليست بأن باسيل لديه حرب طموحات مع كل المرشحين الجديين لرئاسة الجمهورية؛ فالطموحات السياسية والتنافس الإنتخابي الرئاسي حق مشروع؛ وهو جزء من اللعبة الديموقراطية؛ غير أن المشكلة هنا، تقع في طريقة تعيير باسيل عن طموحاته، وفي الأساليب التي ينتهجها لتسليط الضوء عليها.. وأبعد من كل ذلك؛ فإن مشكلة باسيل الحالية والأساسية التي تنتقص لحد كبير من مقبوليته السياسية من قبل الرأي العام اللبناني، تقع في أن في رصيده الشخصي والسياسي حساب دين ثقيل؛ قوامه أنه المسؤول عن ما جرى للعهد الرئاسي الأكثر فشلاً في تاريخ الجمهورية اللبنانية منذ الاستقلال حتى اليوم.
وما فعله جبران باسيل خلال سنوات عهد عمه هو التالي:
.. على المستوى المسيحي حول باسيل عهد الرئيس القوي إلى “عهد النكبة المسيحية” الثانية.. المسيحيون في لبنان عاشوا تجربتي حصار وجوع وانعدام السبل بوجههم: التجربة الأولى حدثت أيام المجاعة التي واكبت ظروف الحرب العالمية والتي أسفرت عن موت وهجرة الآلاف منهم؛ والتجربة الثانية حدثت نتيجة وخلال عهد عم جبران باسيل (الرئيس ميشال عون) وأسفرت عن ضياع أموال وتهجير آلاف منهم.
يستحق ما حدث للمسيحيين جراء سياسات الصهر المدلل المدعومة من عمه “الرئيس القوي”، أن يطلق عليه توصيف “النكبة المسيحية الثانية”؛ فالمسيحيون الذين يؤيدون الجنرال ميشال عون أو الذين يتحفظون على زعامته، لم يخطر لبال أحد منهم أن ينهار البلد في خلال عهده أو نتيجة لعهده. كان يمكن أن يتوقعوا أن يفشل بإدارة تحقيق انسجام وطني نظراً لشخصيته الميالة للصدام مع الذين يخالفونه توجهاته، الخ.. ولكن لم يكن ببال أي مسيحي لبناني أن عون سيحرق بست سنوات ثلاثة عقود من الشعارات الإصلاحية والثقة بالنفس، وأن يذهب لكل هذا الفشل الكارثي؛ واليوم يوجد جواب واضح لماذا حصل هذا الأمر الذي لم يكن متوقعاً؛ وهو ببساطة لأن الصهر أخذ عهد عمه إلى حائط الفشل المسدود، وإلى محصلة “لعهد الرئيس القوي” تساوي ليس “صفر مكاسب” للبلد، بل انهيار كامل للبلد وتلاشي تام للدولة.. إن دور باسيل داخل رئاسة عمه ميشال عون، يحاكي في نتائجه السلبية دور “السلطان” سليم الخوري داخل عهد شقيقه الرئيس بشارة الخوري.. والحق يقال أنه بمثلما أن سليم الخوري خرب صورة رئيس جمهورية الإستقلال بشارة الخوري، فإن باسيل خرب صورة جنرال المسيحيين ميشال عون..
وكل مشكلة جبران باسيل هذه الأيام، ومنذ ثورة ١٧ تشرين٢٠١٩، هي مع صورته كما تظهرها المرآة التي يقف قبالتها.. وتتخذ مشكلته مع صورته بعيون مرآة الرأي العام، طابع الكارثة عليه؛ حينما يشعر بأن الأحداث تأخذ اللبنانيين لإجراء مقارنة بين الجنرال الناجح في آخر مؤسسة في الدولة (الجيش)، وبين الجنرال الذي خرب مع صهره كل مؤسسات الدولة.
قد يكون العماد جوزاف عون أكثر العارفين بأن مشكلة باسيل معه، ناتجة عن بعد أعمق من مجرد أنه ينافسه على رئاسة الجمهورية؛ فباسيل لديه مشكلة نموذج مع جوزاف عون.. فالأخير موجود داخل صورة نموذجه كمسؤول نجح خلال الوقت الصعب في تسيير شؤون الجيش؛ ومجرد أن جوزاف عون موجود داخل هذا النموذج، فإن ذلك يجعله بنظر جبران باسيل خطراً وجودياً عليه، ويجعله مرشحاً للقب جنرال المسيحيين وفخامة رئيس اللبنانيين..
المعركة كما فرضها باسيل فيها الكثير من المعاني الرمزية.. هي حرب بين “نموذج سقط” و”نموذج صاعد” ومفعم بالقدرة على ترميم معنى مهم يتعلق بالزعامة المسيحية التي تنهض من بيئة الجيش.. وهذه الفكرة ولدت على سرير تجربة الأمير الجنرال فخامة الرئيس فؤاد شهاب باني مؤسسات الدولة اللبنانية.. والحق يقال أن الجنرال ميشال عون أضاف لمعنى الفكرة التي ترمز للزعامة المسيحية الناهضة من بيئة الجيش اللبناني. ولكن خلل تجربة ميشال عون وقعت حينما أراد باسيل من خلال علاقته بعمه، أن يستعير من هذه الفكرة قبسا يفيده بإظهار أن له صلة بفكرة الزعامة الناهضة من البيئة العسكرية. لكن خطأ جبران المميت وقع في ثلاثة أمور:
.. أولها أنه استعجل الوصول للقمة، واستعجل وراثة زعامة ورئاسة “جنرال المسيحيين” ميشال عون؛ وتعامل خلال عهد عمه بأسلوب حرق المراحل ليكتشف بنهايته أنه كان ينفذ انقلاباً على نفسه.
الأمر الثاني أن باسيل أدار حروباً دائرية مع كل علاقات وصداقات ميشال عون التاريخية داخل التيار العوني وداخل الجيش وداخل البيئتين المسيحية والإسلامية.. وبنتيجة هذه الحروب، ظهر باسيل فاشلاً في الحساب الإستراتيجي، ومشاكساً وكيدياً في حساباته التكتيكية.. لقد خاض “بشحاعة” وإصرار “حروب حصار نفسه”، وكل ما فعله سلوكه له هو أنه أسهم في بناء جيش كبير ضده، مؤلف من أصدقاء عمه الجنرال التاريخيين والجدد والقدامى.
الأمر الثالث الذي عجل بتعرية باسيل مسيحياً وسياسياً ووطنياً، بغض النظر عن عدد كتلته النيابية ومن بقي معه منهم فعلياً وليس ظاهرياً، هو إشهاره العداء الأعمى للعماد جوزاف عون.. أخطأ باسيل كثيراً بهذا الموقف؛ ليس لأن العماد جوزاف عون يملك قوة سياسية أكبر من التيار الوطني الحر وأهم من الجنرال ميشال عون؛ بل ببساطة لأن العماد جوزاف عون هو في هذه اللحظة يحمل إسم جنرال النجاح في المحافظة على مؤسسة الجيش التي منها انطلق ميشال عون والتي على أساس صلته بها، التف حوله المسيحيون، ونال لقب “زعيم المسيحيين” و”جنرالهم الوطني”.
لم يدرك باسيل قليل الرؤية الإستراتيجية، أنه حينما يطلق الرصاص على جوزاف عون فهو بذلك يطلق الرصاص على تراث التيار الوطني الحر الذي يقوم في ثلاثة أرباعه على الإيمان بالجيش اللبناني الذي بدأ نجم جوزاف عون بالسطوع انطلاقاً من نجاحه في الحفاظ عليه رغم كل الصعوبات.
وبالمحصلة، ووفقاً لنظريات السلوكيات، فإن التوقع المرجح هو أن يستمر جبران باسيل بحربه على جوزاف عون، وأن يستمر بالتالي بإطلاق النار على ساقيه.. ومع كل يوم جديد، ستؤدي هذه الحرب إلى نتائج عكسية ضده، وسيكون أخطر ما فيها، أن باسيل لا يدرك ولا يستوعب معنى نتائجها التي تقول أمراً واحداً، وهو أنه بمجرد نجاح جوزاف عون في مهمة الحفاظ على مؤسسة الجيش في ظرف انهيار كل مؤسسات الدولة، وذلك باعتراف نواب الأمة؛ وأنه بمجرد أن باسيل المتهم بتفشيل عهد جنرال المسيحيين (ميشال عون)، هو ذاته من يهاجم نجاح قائد الجيش في الحفاظ على المؤسسة الرمز للعونيين الذي يدعي “الصهر” تمثيلهم؛ فإن هذا يعني أن جوزاف عون وصلت إليه شرعيتان حتى من دون أن يسعى إليهما: الشرعية الأولى التي نالها هي وطنية لبنانية تمثلت بأن قرار تأجيل تسريحه جاء من قبل نواب الأمة المنتخبين؛ ما عكس الثقة الوطنيةبه كقائد ناجح للحظة الصعبة التي يمر بها الجيش اللبناني.
.. والشرعية الثانية تتمثل بأن تأجيل تسريحه ضمن الظرف الذي حصل به، يجعله قريباً جداً من نيل رمزية لقب “جنرال المسيحيين” كونه تتسلط الأضواء عليه كشخصية تنتمي للزخم الشهابي المنتمية لفكرة الزعامة الوطنية المسيحية الناهضة من بيئة الجيش..