خاص الهديل:
سيحمل معه العام الحالي عدة إشكاليات ستكون محل نقاش مكثف في الكيان الصهيوني خلال العام ٢٠٢٤ الذي ستكون أول يوم فيه مطلع الأسبوع القادم.
أبرز هذه الإشكاليات تتمثل بسؤال حول نوعية الخطر الذي يواجه إسرائيل في هذه اللحظة..
والأسباب الكامنة وراء بروز هذه الإشكالية عديدة؛ وليس أولها أو آخرها عملية طوفان الأقصى فقط، ولا حصراً وقائع الانقسام العامودي الذي تعرض له المجتمع الصهيوني بسبب الموقف من ما سُمي “بالإصلاح القضائي” الذي قامت به “حكومة أقصى اليمين”(!!)، الخ..
وبالخلاصة فإن جماعة النخب في إسرائيل من قادة رأي وأمن وسياسة وثقافة، يتوزعون في هذه اللحظة بين ثلاثة آراء حول تعريف الخطر الحالي الذي يواجه الكيان العبري الذي يقترب عمر ابتداعه من الثمانين عاماً..
الرأي الأهم بين هذه الآراء الثلاثة، والذي تتسع هذه السطور لعرضه، هو ذاك الذي يقول به معسكر اليمين الصهيوني الديني؛ ومفاده هو أن إسرائيل تواجه حالياً “خطراً وجودياً” يهدد بقائها.
والواقع أن ما يدفع اليمين لتبني هذا التعريف عن نوعية الخطر، هو سببان إثنان: الأول هو حث الشعب والجيش في إسرائيل على الإستمرار في الحرب ضد غزة، ومن ثم ضد الضفة الغربية (يهودا والسامرة) لتنفيذ خطة تهجير الفلسطيني (خطة ترانسفير) من “أرض إسرائيل الكبرى” التي هي كل أرض فلسطين التاريخية.. فاليمين يرفع شعار “إما نحن (اليهود) وإما هم؟؟ وليس هناك مجال للحل الوسط مع الفلسطيني.
السبب الثاني الذي يجعل اليمين الديني ينبه إلى أن ما تشهده إسرائيل في هذه اللحظة هو خطر وجودي، فهو هذه المرة داخلي، ويعود لإيمان الإسرائيلي المتدين بوجود نبوأة توراتية تقول أن عمر مملكة إسرائيل كان ٨٠ عاماً، وأن عمر دولة إسرائيل الحالية لن يتجاوز أيضاً ال ٨٠ عاماً..
ويجدر بخصوص هذه الجزئية التوقف عند أمرين مهمين جداً؛ الأول هو أن حجم معسكر اليمين الديني في إسرائيل الذي يؤمن بنظرية أن دولة ستفنى بعد سنوات قليلة – أي عندما تبلغ الثمانين من العمر – يتجاوز قليلاً نصف الشعب الإسرائيلي؛ أضف أن هذا اليمين هو – تقريباً – من يحكم إسرائيل منذ العام ١٩٧٧ (إنقلاب مناحيم بيغن الأبيض) ما مكنه من جعل معظم مؤسسات الدولة العبرية ذات طابع ديني يهودي توراتي..
والأمر الثاني هو أن هذا اليمين الذي يقود إسرائيل حالياً، يعاني في هذه المرحلة من “انفصام مرضي حاد في تفكيره وفي يقينه الوجودي”: فهو من ناحية يدعو إلى الاستمرار في إبادة الفلسطيني لأن بقاء هذا الأخير يهدد بزوال إسرائيل؛ ومن ناحية ثانية، وبنفس الوقت، يدعو للتسليم بزوال إسرائيل إنصياعاً لمشيئة ما كتبه “الرب في التوراة”، وذلك لجهة أن عمر دولة إسرائيل الحالية لن يتجاوز ال ٨٠ عاماً!!.
.. وعليه صار يمكن لحد بعيد إدراك أحد خلفيات جرائم القتل غير المسبوقة التي ترتكبها إسرائيل ضد فلسطيني غزة، وهو أنه تعبير عن دخول إسرائيل على مستوى شخصيتها العامة في حالة “فصام صراعي بين مفهومين كلاهما مرضي”؛ الأول يتعلق بنظرة إجرامية إلغائية للآخر (الفلسطيني صاحب الأرض) يتبناها المشروع الصهيوني في فلسطين، والثاني يتعلق بنظرة من الداخل للذات تحكم على نفسها بأنها وفق مشيئة الرب دقت ساعة فنائها الوجودي في فلسطين؛ ولذلك فإن الحل فيما تبقى من حياة الدولة هو أن تمارس القتل الأعمى للآخر الفلسطيني..
ليس مضموناً أن ينجح المجتمع الصهيوني في مهمة استعادة توازن اجتماعي يصحح انقسامه العامودي الداخلي الذي حدث خلال العام ٢٠٢٣ ، وليس مضموناً أيضاً أن ينجح العقل الصهيوني بتغليب السوية المدينية العقلانية على التفكير المتطرف الانتحاري الغيبي؛ وعليه تواجه إسرائيل في العام ٢٠٢٣ أخطر تحدياتها النابعة من داخلها وأيضاً الآتية إليها من خارجها!!.
إن هذا التناقض الفاقع بين السببين اللذين يدفعا معسكر اليمين الديني في إسرائيل – وهو معسكر يتجاوز قليلاً نصف “الشعب الإسرائيلي” – للاعتقاد بأن ما يواجه “دولة إسرائيل” هو خطر زوال وجودي: فمن ناحية يرد السبب إلى مقاومة الفلسطيني ورفض شعوب المنطقة له؛ ومن ناحية ثانية يقول السبب هو مشيئة الله وحكم التوراة الذي يؤمن به.. وعليه يبدو أن الإسرائيلي اليميني الديني يدخل مرحلة انفصام حاد حيث يسيطر عليه مناخين متناقضين الأول خارجي يخرج لإبادته وهو الفلسطيني والآخر العربي والمسلم؛ والثاني داخلي يسلم أمره له وهو قناعاته الدينية الغيبية.
وأسباب هذا الخطر ليست فقط أمنية وتاريخية ناتجة عن أن المقاومة الفلسطينية، رغم مضي أكثر من ٧٠ عاماً على احتلال فلسطين، لا تزال مصرة على استعادة الشعب الفلسطيني لسيادته على أرضه، بل هناك أيضاً أسباب ذاتية نابعة من داخل بنية الشعب الإسرائيلي الذي لن يستطيع أن يحمي بقاء دولته أكثر من ٨٠ عاماً.