الهديل

خاص الهديل: “مبدأ الإبادة الجماعية” بين إسرائيل وجنوب أفريقيا: مانديلا يحاكم نتنياهو…

خاص الهديل:

ما يحدث في لاهاي هو حدث تاريخي وغير مسبوق على مستوى تاريخ الصراع الفلسطيني الصهيوني..

وفي هذا الوقت المبكر من بدء عمل محكمة العدل الدولية، يمكن التذكير بأنه منذ ظهور البشرية كان ولا يزال هدف تحقيق العدالة البشرية هو أصعب مهمة تواجهها البشرية.. وعليه فإن خروج إمبراطورية العصر الولايات المتحدة الاميركية لكسر إرادة جنوب أفريقيا ومنعها من السير قدماً في مهمة العدالة للإنسان الفلسطيني في غزة، ما هو إلا تجسيد لمشهد الصراع بين الخير والشر الأبدي الذي ولد مع ولادة الإنسان فوق هذه المسكونة..

وعلى حد السيف يستمر سير المشروع الصهيوني الأميركي في غزة؛ وبمقابله تحت قوس محكمة العدالة الدولية تبدأ رحلة إنصاف القضية الفلسطينية بعد تأخر دام نحو ٧٦ عاماً.

إن بين قضاة محكمة العدل الدولية لائحة اتهام بالإبادة الجماعية التي مارستها إسرائيل ضد غزة، كبيرة جداً؛ ليس أولها أو آخرها قتلها لنحو ٧ آلاف طفل في أقل من ثلاثة أشهر، ما يبرهن جنائياً وقانونياً، أن إسرائيل تقتل في غزة من دون تمييز؛ وأن إسرائيل لا تقتل في غزة من أجل تحييد مقاتليين بوجهها، بل من أجل إلغاء وجود الفلسطيني وإبادته. وداخل لائحة الإتهام عينها توجد أيضاً قرينة تصريحات المسؤولين والجنود الإسرائيليين أنفسهم، حيث طالب وزير إسرائيلي بضرب شعب غزة بالسلاح النووي. فيما أحد الجنود نفى أنه يقتل أطفالاً وأكد أنه يريد / ويقوم بقتل الرضع الفلسطينيين.. وأيضاً وأيضاً توجد قرائن من نوع حصار المستشفيات، وقتل الأطفال الخدج بداخلها وإرغام المرضى على الهجرة من المستشفى إلى اتجاهات مختلفة داخل غزة، الخ..

وبكل حال فإن قيام جمهورية جنوب أفريقيا برفع دعوى على إسرائيل لشنها حرب إبادة جماعية على غزة، هو أمر يسجل لجنوب أفريقيا كعلامة بيضاء ومقدامة في تاريخها النضالي الإنساني..

وفي وقت أن العالم الآن لا يزال في اللحظات الأولى من مسار محاكمة الصهيونية النازية في فلسطين؛ فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو لماذا جنوب أفريقيا هي التي بادرت لرفع هذه الدعوى انتصاراً لغزة؟؟.

الإجابة تقود لإيضاح أمرين إثنين أساسيين وملفتين وهامين؛ الأول يحمل بجانب منه مصادفة ووالثاني يحمل بجانب آخر منه مفارقة: أما المصادفة فتقع في أنه حينما جرى في عقد أربعينات القرن الماضي السعي لإنشاء محكمة العدل الدولية، فإن كلاً من جنوب أفريقيا وإسرائيل كانتا من أوائل الدول التي رحبت بإنشائها؛ وأيضاً حينما جرى في خمسينات القرن الماضي طرح أن يتم إقرار بند في قانون محكمة العدل الدولية، يقول أن مكافحة الإبادة الجماعية من صلاحياتها، كانت كل من جنوب أفريقيا واسرائيل شريكتين في المطالبة بحماسة بإقرار هذا البند!!

وحينذاك كان السبب الذي جمع بين إسرائيل وجنوب أفريقيا ليسيرا معاً على طريق دعم فكرة محكمة العدل الدولية وإعطائها صلاحية مكافحة الإبادة الجماعية واضحاً، وهو أن اليهود كانوا خارجين للتو من هاجس أن النازية أرادت إبادتهم؛ فيما شعب جنوب أفريقيا ذو السحنة السوداء، كان لديه هاجس أن الرجل الاستعماري الأبيض يريد إلغائه وإبادته. ولكن المفارقة الصادمة التي حصلت بعد نحو سبعة عقود، وفي العام ٢٠٢٤، تتمثل بأنه فيما جنوب أفريقيا أصبحت منارة ضد الإبادة الجماعية بعد تحررها من نير نظام التمييز العنصري الأبيض؛ فإن إسرائيل انكشفت فكرتها، واصبحت على مدار القرون السبعة الأخيرة، بمثابة جلاد نازي جديد.. أضف أنه فيما جنوب أفريقيا ولد فيها مانديلا الزعيم من أجل حرية الانسان؛ فإن الصهيونية التي ادعت زوراً أنها تقاتل من أجل رفع هاجس الإبادة عن اليهود، ولد من رحمها كهانا وبيغن وبن غفير وصولاً لغانتس ونتنياهو؛ وجميع هؤلاء يقفون اليوم وراء قضبان محكمة العدل الدولية، كمتهمين بالإبادة الجماعية في غزة.  

إن نموذج جنوب أفريقيا الذي نجحت الصهيونية زوراً في أربعينات القرن الماضي بالإيحاء بمحاكاته بوصف اليهود هم أيضاً شعب يريد الاستقرار فوق أرضه المهجورة في فلسطين؛ هو ذاته اليوم (أي نموذج جنوب أفريقيا) يصحح الخطأ الذي لحق بالفلسطيني، وهو ذاته اليوم يصحح الخطأ الذي ارتكبه الاستعماري البريطاني القبيح في جنوب أفريقيا التي احتلها وحولها لنظام عنصري أبيض، وارتكبه في فلسطين التي احتلها وحولها لدولة فصل عنصري صهيوني ضد الفلسطيني.

إن التاريخ في لاهاي، يهدر كجريان النهر الذي ينظف مجراه الكبير من الخطايا التي لها فعل الجرائم.. فرمزية مانديلا المحرر الأفريقي الأسمر، هي التي جعلت جمهورية جنوب أفريقيا الجديدة الخالية من العنصرية، بمثابة امبراطورية لها قوة سياسية واقتصادية خارجية هائلة تجرها أحصنة مبادئ العدالة الإنسانية التي من بين عناوينها مطاردة جرائم الإبادة الجماعية.. وما يحدث حالياً هو أن رمزية مانديلا تحاكم إرهاب نتنياهو؛ وأيضاً ما يحدث حالياً هو أن نموذج جنوب أفريقيا بكل رمزيته العالمية، يعلن إدانة المشروع الصهيوني في فلسطين، ويعلن بداية نشوء حلف دولي للانتصار للقضية الفلسطينية بوصفها ليست فقط قضية حق سياسي، بل أيضاً قضية الدفاع عن الإنسان في هذا العصر..

محكمة العدل الدولية تملك مدافع أخلاقية بوجه مدافع إسرائيل الأميركية.. وهي مؤسسة لا تزال تحتفظ باستقلالية عن أغراض السياسات الدولية؛ وذلك على عكس محكمة الجنايات الدولية التي خالطت السياسة أعمالها.. وهي أخيراً وليس آخراً، منصة دولية محترمة تملك جرأة أخلاقية لا محدودة، ما يجعلها قادرة على أن تكون قوة لا يستهان بها لمحاضرة المشروع الصهيوني في فلسطين، ولجعل أطفال غزة هم الذين يحاصرون مستوطني القتل الجماعي، وليس العكس. 

ببساطة، أمس كانت أول جلسة لمحكمة العدل الدولية من أجل غزة وفلسطين.. وبنفس الوقت يمكن القول أنه أمس بدأت أول خطوة في رحلة إنهاء آخر إحتلال في العالم؛ أي إحتلال إسرائيل لشعب فلسطين، وأرض فلسطين.

Exit mobile version