الهديل

خاص الهديل: ماية يوم على حرب غزة: ٩٩ بالمئة من دول العالم لا تفهم ماذا يريد بايدن؟!!.

خاص الهديل:

بقلم: ناصر شرارة

تخطت حرب غزة يومها المائة. وهذا يعني أنه لم يعد ممكناً النظر إليها على أنها تنتمي لسلالة الحروب القصيرة الأمد التي تنتهي بالاتفاق على وقف لإطلاق النار بعد مضي عدة أسابيع على اندلاعها ، بل بات واضحاً في اليوم الماية لحرب غزة، أنها حرب تنتمي لأزمات الحروب طويلة الأمد التي تستمر لأشهر وحتى لأكثر..

..ولأن الأحداث الكبيرة لا تولد من فراغ، فقد يكون مفيداً التوقف عند حقيقة أنه خلال الفترة القريبة الأخيرة شهد العالم نوعين إثنين من الحروب؛ تركت كل واحدة منهما عبرتها الإستراتيجية حول الماهية الجديدة التي يتسم بها “الجيل الجديد من الحروب” أو “أحدث أنواع الحروب في القرن الحالي”.. ؛ والمقصود هنا هو حرب أوكرانيا المستمرة منذ أكثر من عامين، وحرب أذربيجان على كاراباخ التي انتهت بغضون أيام قليلة.. 

العبرة المستخلصة من حرب أوكرانيا المستمرة، تقول أن الجيوش الكبيرة (الجيش الروسي) لم يعد يمكنها بنفس السهولة التي امتلكتها بالماضي، أن تكسر شوكة المقاومات المحلية التي تقاتل فوق أرضها؛ أما العبرة الإستراتيجية التي بينتها حرب أذربيجان ضد كاراباخ؛ فهي مغايرة للأولى، وتقول أن الجيوش القوية يمكنها بوقت قياسي، كسر إرادة الشعوب التي تقاومها من خلال شن “حرب ترانسفير عليها”..

واضح أن حرب غزة تحمل بداخلها العبرتين الاستراتيجيتين المستخلصتين من هاتين الحربين؛ فمن ناحية يظهر بوضوح أن الجيش الإسرائيلي القوي لا يمكنه كسر مقاومة الفلسطيني في غزة، ويظهر من ناحية ثانية أن الهدف الوحيد الذي يمكن أن يجلب “النصر” لإسرائيل في غزة، هو نجاحها في فرض حالة ترانسفير على أهلها وعلى العالم.

والشبه المتصل بين أذربيجان في كاراباخ من جهة وبين إسرائيل في غزة، كبير جداً؛ ولكن ليس من ناحية الخصوصيات بين القضيتين؛ ولكن من ناحية أن حرب أذربيجان على كاراباخ مهدت أجواء العالم لتقبل أن يشهد العودة لزمن “حروب الترانسفير” التي تقوم بها الجيوش الكبيرة والقوية ضد شعوب مغايرة تقطن بين ظهرانيها وتطالب بحقها بتقرير مصيرها. لقد كان خطأ في هذا المجال عدم تحرك المجتمع الدولي لمنع تهجير أرمن كاراباخ من إقليمهم إلى خارجه؛ كون هذا الصمت الدولي شكّل سابقة تقول للدول المعنية بممارسة “حروب الترانسفير” ضد الغير، وعلى رأسها إسرائيل، انه بعد اليوم بات لأية قوة إقليمية أو مركزية شرعية ممارسة “حرب ترانسفير” لحل قضايا مطالبة الجماعات والشعوب بحقها بتقرير المصير. 

ومن منظار مقارن بين استراتيجيتي الحربين في غزة وكاراباخ، فإنه يمكن الاستنتاج أنه بمثلما أن أذربيجان فرضت على حكومة كاراباخ الأرمنية المحلية توقيع اتفاق استسلام لأذربيجان، و”تسفير” الشعب الأرمني الكاراباخي من إقليمه؛ فإن إسرائيل تريد اليوم تكرار الحل الأذربيحاني في قطاع غزة ولاحقاً في الضفة الغربية؛ أي ترحيل أهاليها الفلسطينيين (ترانسفير) إلى خارج غزة وما تسميه “يهودا والسامرة”.  

وبعد مرور ماية يوم من الحرب على غزة، فإنّه بات واضحاً أن هناك أمرين إثنين لم يعد يجدر التوهم بشأنيهما: 

الأول أن “كل إسرائيل” (بمعنى معسكر اليمين بقيادة نتنياهو وأيضاً معسكر المركز [الوسط واليسار] بقيادة لابيد وغانتس)، مقتنعة بالعمق، أنه لم يتبق لها من خيار أو سبيل للانتصار في غزة، إلا خيار فرض حل الترانسفير على أهلها الفلسطينيين؛ وأنه دون تحقيق هذا الهدف هو الهزيمة.. 

والواقع أن استمرار إسرائيل بعدم الموافقة على وقف النار له معنى واحد؛ وهو أن إسرائيل لا تزال تراهن على أنه لا يزال هناك إمكانية للوصول للحظة فرض “الترانسفير” على فلسطيني غزة بوصفه حلاً وخياراً وجودياً وحيداً متبقياً لهم؛ وأيضاً فرضه (أي الترانسفير) “كأمر واقع” لا مفر منه، ومفروض قسراً على دول الجوار الإقليمي والمعنوي لغزة.. 

وفي اليوم المائة لحرب غزة، بات واضحاً حتى لفاقدي البصر أن هدف اجتثاث حماس ليس قابلاً للتحقق، أقله لأن حماس تمثل فكرة المقاومة داخل مجتمع محتل؛ وعليه حتى يمكن اجتثاث هذه الفكرة سيتعين اجتثاث المجتمع بكامله؛ وهذا هو الهدف المنشود (الترانسفير الشامل) الذي تسعى إليه “كل إسرائيل”.. 

الأمر الثاني الذي ما عاد يمكن تجاهله بعد مرور ماية يوم على حرب غزة، هو أن مطلب “وقف هذه الحرب” المؤيد بنسبة ٩٩ بالمئة من دول العالم، لم يتحقق نتيجة عامل أساسي ووحيد، وهو أن إدارة بايدن لا تريد حتى الآن لهذه الحرب في غزة أن تقف؛ ولأنه ليس واضحاً بعد متى تريد إدارة بايدن أن تتوقف!!.. 

.. ولذلك؛ فإنه بعد ماية يوم من استمرار الحرب، يصبح السؤال الجوهري ليس لماذا “يمين إسرائيل” أو “كل إسرائيل” لا يريد وقف الحرب على غزة، بل لماذا الإدارة الأميركية الديموقراطية وحتى اليسارية في بعض توجهاتها، لا تريد وقف الحرب على غزة؟؟.. وما هو الهدف الذي عند تحققه توافق إدارة بايدن على وقف الحرب؟؟ 

الإجابة الرسمية المعتمدة على هذا السؤال من قبل إدارة بايدن، ترجع السبب إلى أن واشنطن مقتنعة بضرورة اجتثاث حماس ليصبح ممكناً السير في اليوم التالي للحرب بحل الدولتين؛ ولكنها، أي إدارة بايدن بنفس الوقت ضد قتل إسرائيل للمدنيين الغزاويين. 

وحينما يقول ال٩٩ بالمئة من العالم، لإدارة بايدن أن اجتثاث حماس فكرة غير واقعية، فإن إدارة بايدن تعقلن هدفها ليصبح “ضرب مقدرات حماس على حكم غزة”. ولكن “ال٩٩ بالمئة من العالم” مقتنع بأن من بيده حسم عامل من يحكم حكم غزة بعد توقف الحرب، هو إجراء انتخابات حرة، وليس الإستمرار في الحرب التي تدمر غزة وتهجر سكانها، بحيث لا يعود هناك إمكانية لليوم التالي السياسي فيها، الذي تتحدث عنه إدارة بايدن!!.

وما تقدم، يظهر أن حوار الطرشان حول كيفية التوصل لوقف النار في غزة؛ هو ذاك الدائر مع إدارة بايدن وليس فقط مع حكومة نتنياهو.. فبايدن يطلب الآن إنتقال الجيش الإسرائيلي من المرحلة الثانية في حربه على غزة، إلى المرحلة الثالثة التي تتسم بحسب البيت الأبيض، “بتخفيض كثافة القتل والحرب”..

والمفارقة أن بايدن يعرض هذه الخطة بوصفها بديلاً عن الذهاب لوقف الحرب!!. 

وأغرب من ذلك؛ وضمن هذا المعنى، يبدو بايدن وكأنه يقول أنه يجب في المرحلة الراهنة الجديدة المسماة بالمرحلة الثالثة، نقل نموذج الحرب الجارية في الجبهة الشمالية والمتسمة بكثافة تصعيد مخفضة، إلى ميدان غزة في الجبهة الجنوبية؛ بمقابل منع نموذج المرحلتين الأولى والثانية من حرب غزة بالانتقال إلى الجبهة الشمالية بين الحزب وإسرائيل!!.  

قصارى القول في هذا المجال أن إدارة بايدن تمارس معادلات سياسية غريبة تجاه ملف حرب غزة؛ فهي لا تطرح فقط عمليات التنقل داخل مراحل تنظيم مستوى التصعيد والقتل؛ بل تطرح أيضاً تبادل نماذج الجبهات في هذه الحرب، وأكثر من ذلك تطرح “توحيد مستوى التصعيد فيها”؛ بمقابل ما يطرحه “محور الممانعة” عن “توحيد مسار الساحات” بين أطرافه.. 

ومجمل هذه السياسة تظهر بالأساس أمراً استراتيجياً وهو أن إدارة بايدن لا تريد “وقف الحرب” الإسرائيلية على غزة، بل تريد “تنظيم الحرب الإسرائيلية الأميركية على غزة بكل تداعياتها”؛ تماماً كما تفعل إدارة بايدن في السودان، حيث امتنعت عن الإسهام بالجهود الرامية لوقف الحرب بين طرفيها هناك، وبدل ذلك قامت “بتنظيم الحرب بينهما”.. وفي ليبيا فضلت إدارة بايدن وقف الحرب فيها، مع الحفاظ على بقاء الأزمة السياسية الحادة قائمة فيها..

ويفاد من كل ما تقدم أن مدرسة إدارة بايدن السياسية في المنطقة لا تهدف إلى إنهاء الأزمات في المنطقة، بل إلى الحفاظ عليها تحت سقف عدم تحولها لحرب شاملة (أزمات ليبيا ولبنان والعراق وربما مصر)؛ ولا تهدف لوقف النار في الساحات التي تريد بقائها ساخنة عسكرياً، بل تنظيم لعبة الحرب فيها (غزة والسودان وأوكرانيا).. وسيمر وقت قبل تبين حقيقة هدف إدارة بايدن من هذه السياسة التي لا يفهم كنهها حتى الآن ٩٩ بالمئة من دول العالم..

Exit mobile version