الهديل

ملتقى بيروت نظّم مؤتمراً حول “موقع بيروت في القرار الوطني”

ملتقى بيروت نظّم مؤتمراً حول “موقع بيروت في القرار الوطني”

بيروت هي صاحبة الدور الوطني الجامع ومحور الحياة السياسية ورمز العيش المشترك والتسامح والاعتدال والانفتاح

نظّم ملتقى بيروت مؤتمراً برعاية النائب فؤاد مخزومي حول” موقع بيروت في القرار الوطني” في ثلاث جلسات، حضره سماحة مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ عبد اللطيف دريان ممثلاً بالشيخ الدكتور أسامة حداد، وسيادة متروبوليت بيروت وتوابعها المطران إلياس عودة ممثلاً بقُدس المتقدم في الكهنة الأب نكتاريوس خير الله، ووزير الاقتصاد أمين سلام، والنواب غسان حاصباني وفؤاد مخزومي وفيصل الصايغ، والوزراء السابقون خالد قباني وحسن السبع ومحمد المشنوق ووليد الداعوق وميشال فرعون ممثلاً بالسيدة باولا رزق والنائب السابق عمار حوري، ومحافظ جبل لبنان القاضي محمد مكاوي، ومحمد بن جميعة ممثلاً السفير وليد بخاري والقائم بالأعمال التونسي مصطفى العساكري والقنصل المصري العام محمد المشد، ورجال دين، وحشد من الشخصيات السياسية والإعلامية والاجتماعية وفعاليات بيروتية، واعتذر عن عدم الحضور بداعي السفر محافظ بيروت القاضي مروان عبود ورئيس المجلس البلدي عبد الله درويش.
ابتدأ المؤتمر بالنشيد الوطني اللبناني، وبالوقوف دقيقة صمت على أرواح شهداء غزة وجنوب لبنان. وبعد ذلك بدأ المؤتمر أعماله بالكلمات والجلسات:
المحامي حسن كشلي
عريف المؤتمر
أهلاً وسهلاً بكم جميعاً في مؤتمر “موقع بيروت في القرار الوطنيّ” الذي يُنظّمه مُلتقى بيروت..
حرصنا منذ اللحظة الأولى التي تداعَيْنَا فيها لمُلاقاة رئيس المُلتقى الدّكتور فوزي زيدان على أن يكونَ هدفنا تثبيت موقع بيروت في القرار الوطنيّ..
فالمُلتقى ليسَ تجمّعاً عابراً يُشبه الكثير من العناوين التي تزهو بأسماءٍ عديدة، وهذه العناوين تفتقدُ الفعالية…
نحنُ اليوم في هذا المؤتمر نخطو خطوةً كبيرة نحوَ تفعيل العمل السّياسيّ والاجتماعيّ لتثبيت موقع بيروت في القرار الوطنيّ.
أمّا التوقيتُ، فهو أنّ المنطقة برمّتها تتخبّطُ في أمواج الحروب وعواصف الأزمات، فما بعد ما يحصلُ في منطقتنا، قطعاً لن يشبه ما قبله. ولأنّنا نحرصُ أشدّ الحرصِ على بيروت ودورها الذي لم ولن يغيبَ يوماً، ومن باب مسؤوليّتنا وما يُمليه عليه ضميرنا، قرّرَ ملتقى بيروت تنظيم هذا المؤتمر…
ولئِن حاول البعضُ تغييبَ دورِ بيروت بوسائل عديدة، إلّا أنّ أحداً لم ينجح بذلك، ولنا في التّاريخ القريب والتّاريخ البعيد عبرة لمن يعتبِر.ولعلى اخر حلاقة بمسلسل التغيب محاولة التعرض لمقام دار الافتاء والعلماء الذي نؤكد ضرورة الالتفاف حول صاحب السماحة مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ عبداللطيف دريان كونه يشكل صمام امان للوطن.
فدور بيروت لا يغيب عن الشّرق الأوسط برمّته.. ففيها رَفَعَ عُمر الدّاعوق الرّاية العربيّة في العام 1918…
ومن أرضِها أعلَنَ الجنرال غورو قيام دولة لبنان الكبير في العام 1920..
كما أنّه لم يكُن الاستقلال الأوّل في العام 1943 من دون بيروت، ومن دون بيوتها السّياسيّة الوطنيّة.. وكذلكَ لم يكن الاستقلال الثّاني في العام 2005 ليكونَ لولا ساحاتِ بيروت وأهلها…
وما بين الاستقلاليْن كانَ اتفاقُ الطّائف الذي أخرَجَ لبنان من الحرب الاهلية، كانت بيروت المُتضرّرَ الأكبر منها، وكانَ لبنان كلّه يتقاتلُ فوقَ أرضها، لكنّ رجالها، نسجوا الدّور الوطنيّ وأعادوا الوفاق بجولات مكّوكيّة أسفرَت عن ترسيخ الثّوابتَ لهويّة لبنان العربيّة، وأنّه وطنٌ نهائيّ لجميع أبنائه.. فلا تقسيم ولا توطين..
لن يكفي السّاعات والسّاعات للحديث عن دورِ بيروت ورجالاتها…
وليبدأ مؤتمرُنا عمله، أتركُ الكلام لصاحب الباع الطويل في المجال الطبي والاجتماعي لرئيس مُلتقى بيروت الدّكتور فوزي زيدان فليتفضّل مشكوراً…

الدكتور فوزي زيدان
رئيس ملتقى بيروت
لقد انطلقت عجلة العمل في تأسيس ملتقى بيروت، مباشرة عقب الانتخابات النيابية الأخيرة، منتصف العام 2022، انطلاقاً من نشر الوعيّ السياسي والفكري لأهالي بيروت في استخدام حقهم الدستوري بانتخاب ممثليهم في المجلسين النيابي والبلدي، وبالتالي إفراز من يرونه مناسباً لتحقيق طموحاتهم، التي أبسطها العيش بكرامة في مدينتهم بيروت، والعمل على إنمائها بمشروعات تنموية ولو بصيغة متواضعة.
على مدى أكثر من سنة ونصف، حدّدنا رؤيةَ وهدفَ الملتقى، فهو ليس إضافةً على جمعياتٍ ومنتدياتٍ وملتقيات، مع تقديرنا لجهود الجميع، في تقديم خدمات ومساعدات اجتماعية أو إنسانية. إنما ننفرد بأن نركّز جهدنا على تأسيس وعيّ سياسي وقانوني واجتماعي لدى المواطن اللبناني، وتحديداً البيروتي .. الذي سيشكّل مستقبلاً عنصر ضغط ايجابي على كلّ من يتولّى شؤون العاصمة، مع المسؤولين لتنفيذ مطلب ما، أو تحقيق مشروعٍ حيويٍّ ما.
فقد عقدنا الندوات، وقدّم المتخصصون أوراقهم في محاضرات، تمّ الإفادة منها نظرياً وشكّلت وعياً لدى متابعيها، نتوّجها اليوم بهذا المؤتمر المصغّر، الذي نريد له أن يكلّل جهود الملتقى بوثيقية مرجعيّة، عبارة عن مجموعة توصيات ندخرها لغدٍ أفضل، أو للقابل من الأيام، أو عندما يكون لأهلِ بيروت الهمّةَ العاليةَ المرجوة، والوعيَّ السياسيَّ والتاريخيَّ لموقع سيدة العواصم ودورها في القرار الوطني، منذ عهد استقلال لبنان، لا بل منذ إعلان دولة لبنان الكبير، وحتى تاريخنا الحديث جداً.
بيروت هي مدينةُ التلاقي والمحبة يعيش أهلُها من كل الطوائفِ بانسجامٍ ووئام، وهي مدينةُ النضال الوطني والقومي ترفعُ رايةَ لبنان الوطن السيّد المستقل ورايةَ العروبةِ الحضارية، وتساندُ القضايا العربية وفي مقدّمِها قضية فلسطين. وإننا إذ ندينُ المجازرَ التي يرتكبها العدوُّ الصهيوني ضد شعبِ فلسطين بخاصة أهلِ غزة، ونتضامنُ معهم، ونحيي المقاومينَ الأبطال، نرفضُ أن يكون لبنان، الذي يعاني أوضاعاً سياسية واقتصادية غيرُ مستقرّة، ساحةَ مواجهة، ونطالب من أجلِ حمايةِ لبنان من الاعتداءات الإسرائيلية بتطبيق القرار 1701 تطبيقاً كاملاً.
أما إعادةُ الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي إلى لبنان، فإنه يتطلب انتخابَ رئيسٍ عتيد للجمهورية، يجمع ولا يفرّق، ويضعُ ضمن أولوياتِه إعادةَ السيادة والقرار الوطني إلى الدولة، وإعادةَ لبنان إلى الحضن العربي، ومن ثمّ تشكيل حكومة ترأسُها شخصيةً وطنيةً تتمتعُ بحيثيّة شعبية وبالنزاهة والشفافيةِ، ولديها علاقاتٍ عربية ودولية مميّزة وبرنامجٍ إصلاحي إنقاذي.
عندما نتحدثُ عن الموقعِ والدورِ في القرار الوطني، لا نتحدثُ عن جغرافيا بمعزلٍ عن الحضورِ الفاعلِ المفصلي لبيروت في القرار الوطني المصيري… هي ليست مجرّدَ مقرّ لمؤسّساتِ الدولة الدستورية، كونُها العاصمة، هي بيروت بناسِها وأهلِها الأصلاء الذين لهم مواقفهم في الهمّ الوطني، ولهم احتياجاهم في الشأن الإداري لمؤسّسات الدولة، ولهم مصالحهم عبر التاريخ ومرور الزمن يريدون استرجاعَها من مغتصبيها.
كلّ هذا يمثّل دورَ بيروت في القرار الوطني… فالحقُّ لا يستجدى، وإنما يؤخذ أخذاً ممن اغتصبَه، معتقداً أنّها الفرصةُ التاريخيّةُ السانحة، واللحظةُ الوطنيةُ المتاحة التي قد لا يتكرّر فيها توافرُ فائضِ القوّةِ من جهة، وضعفُ الوجودِ عند الآخر، نتيجة تراكمِ سياساتِ التهميشِ والتفرقةِ والاغتيالاتِ السياسية، وغيرها من ممارساتِ التعسّفِ العدواني بحقّ الآخرين.
أيها المؤتمرون… أرجو أن نخلص بنتائج على شكل توصيات، تليق بالدور الطليعي لمدينة بيروت وتاريخها المجيد.
عشتم وعاشت بيروت حرّة أبيّة عصيّة.
وعاش لبنان.

الأستاذ فؤاد مخزومي
نائب بيروت وراعي المؤتمر
*بيروت أم الشرائع،*
*بيروت قلب العروبة،*
*بيروت قلب لبنان وعقله*،
وحين تكون بيروت الموضوع والقضية… يذهب بنا مخزون الذاكرة إلى مرتع صبانا، فمن منا لا يشعر بالحنين إلى أحياء وزورايب بيروت، فالبلد الذي نسميه اليوم وسط بيروت.. كان يضم السوق والدكان والسينما والمسرح.. لست وحدي من تتملكه هذه المشاعر بل اظن أننا نتشارك جميعاً حب بيروت العتيقة ست الدنيا ولسوف تبقى كذلك وقلب لبنان الذي يجتمع ويرتاح عند عراقتها وطيب أهلها الأغيار.
بيروت اليوم أيها الأحباء بخطر، إذ تتعرض لمحاولة المسّ بكل ما جعل منها لؤلؤة عواصم العالم.. بيروت بحاجة إليكم وإلينا جميعاً اليوم، للدفاع عن عروبتها وكيانها ورسالتها التي يتغنَّى بها العالم أجمع.
لا يخفى على أحد أنّ عاصمة الدولة تشكّل المؤشر الأساسي للواقع الذي تعيشه الدولة على كافة الصعد. فإذا كانت العاصمة بخير فهذا دليل على أنّ البلد كله بخير.. وعاصمتنا بيروت ليست بمنأى عن هذه الحقيقة، فبيروت اليوم تختصر مشاكل لبنان الاقتصادية والمالية والمعيشية والاجتماعية، وما يعانيه من نقص في مشاريع التنمية، وأزمات الكهرباء، والمياه، والبنى التحتية، وسواها.
بعد أن كانت بيروت قلب العروبة وتتمتّع بدور جامع وريادي وبالقدرة على صنع القرار، باتت عاصمتنا مسلوخة عن بُعدها السياسي والثقافي والاجتماعي الذي طالما عُرفت به عندما كانت منفتحة ومتصلة بالعواصم العربية والغربية، وأُخرجت عن سكة العروبة خلافاً للتاريخ والجغرافيا معاً، وانهارت قدراتها تدريجياً إذ تتالت عليها الكوارث منذ ما قبل 2019 إلى اليوم، بدءاً من أزمة النفايات، ووباء كورونا، مروراً بجريمة انفجار المرفأ في 4/8/2020، وصولاً إلى الأزمة الاقتصادية والمالية غير المسبوقة، ناهيك عن الفراغ في سدّة الرئاسة الأولى والصراعات والحروب التي تعصف في المنطقة وفي مقدمها الحرب في غزة والجبهة المفتوحة في جنوب لبنان.
صحيح أنّ الأوضاع اليوم سيئة لكننا لم نجتمع اليوم لنرثي حال عاصمتنا، بل لنجترح حلولاً جدية من شأنها أن تنهض ببيروت وتعيد لها دورها الريادي.. لتستعيد بيروت قرارها السياسي والسيادي وتعود عاصمة “القرار الوطني”.
إذن، إن استقرار بيروت السياسي هو مقدمة للاستقرار الاقتصادي والاجتماعي والأمني في كل لبنان. وما يهمنا اليوم هو تصويب البوصلة لمصلحة بيروت وأهلها. فقد طفح الكيل وأهل بيروت ملّوا بسبب الضعف في ممارسة السلطة، ويحتاجون فعلاً إلى ورشة تغيير.
وهذا التغيير يبدأ أولاً بوضع برنامج إنماء اجتماعي – اقتصادي ضمن خطة حكومية يشارك فيه فعاليات وجمعيات المجتمع الأهلي والمدني ويكون أساسه التعاون والحوار والوفاق بمعزل عن المصالح الشخصية.
ثانياً، من الضروري أن يصطلح الوضع السياسي في البلد، لا سيّما أنّ لبنان يمرّ بأزمة اقتصادية ومالية ومعيشية لا تحتمل وهذا يحتم علينا حماية بلدنا.. *من هنا يجب العودة إلى الدستور، والتمسك باتفاق الطائف، الذي وضع حداً للحرب الأهلية وأعاد بناء مؤسّسات الدولة، وكان وسيبقى الضمانة الأمثل لبلدنا وحماية الميثاق الوطني والعيش المشترك*. عدا عن ضرورة انتظام الدولة ابتداء بانتخاب رئيس للجمهورية وحكومة كاملة الصلاحيات والثقة وانتظام المؤسسة العسكرية، بالرغم من كل الأوضاع الإقليمية المتأججة. *وعلى الرئيس المقبل أن يضع نُصب عينيه العودة إلى محيطنا العربي، لا سيما العلاقة مع المملكة العربية السعودية التي لطالما وقفت إلى جانب وطننا ودعمته*.
والتوصل الى اتفاق مع صندوق النقد الدولي لإعادة الثقة بالاقتصاد والدولة اللبنانية وطبعاً هذا يتطلب العمل على تشريع كل الاصلاحات المالية التي نعمل وزملاؤنا في المجلس على تمريرها وإقرارها في مجلس النواب فور انتخاب رئيس للجمهورية.
ثالثاً، من الضروري أن يكون لنا كنواب عن بيروت والمجتمع المدني والجمعيات الأهلية وشخصيات بيروتية وازنة دور فاعل في استنهاض عاصمتنا، فهذا التشتت والتشرذم الذي نشهده اليوم لم يعد مقبولاً. لذا من الضروري أن نضع نُصب أعيننا مصلحة بيروت وكل لبنان. ومن هنا أحب أن أذكّر أنني وعدد من نواب بيروت نعقد اجتماعات دورية لمتابعة أوضاع العاصمة وحاجاتها الإنمائية واليومية الطارئة، ونتطرق إلى الملفات الملحّة مثل الأوضاع الاجتماعية وما يتعلق بالأمور الحيوية لأهل بيروت ومؤسّساتها لجهة ملفات الصحة، والتعليم، والأمن، وتنظيم السير، ورسوم البلدية، والكهرباء، والمياه والنفايات.
والتعينات في الدولة طالما هنالك اعتراف بالنظام الطائفي المقيت لحين الوصول لتطبيق المواطنة وتعتمد الكفآت كمعيار للتوظيف
رابعاً، لا شك في أن المعركة الدائرة في غزة ستفرض واقعاً جديداً لم تتضح معالمه بعد. وعليه من الضروري عزل لبنان عن أيّ معركة، ورفض خلق معادلات جديدة كمعادلة “قواعد الاشتباك”، التي تخرج لبنان عن مظلة الدستور وقرارات الشرعية الدولية، والتمسك القرارات الدولية وفي مقدمها القرار 1701، الذي يؤمّن الاستقرار والأمن على الحدود الجنوبية اللبنانية.
لحين الوصول لتسوية سياسية دائمة في المنطقة تعتمد على مفهوم المبادرة العربية التى اطلقت في بيروت في ٢٠٠٢، مبدأ الدولتين أيّ الأرض مقابل السلام حسب القرارات الدولية وستبقى فلسطين قضية العرب الأساسية والاولى
إخوتي أخواتي
نحن أشخاص من قلب بيروت، وبيروت قلب لبنان… ولبنان بحاجة إلى أشخاص يعملون ويكون هدفهم الوحيد النجاح في خدمة بلدهم كما نجحوا تماماً في أعمالهم الخاصة وفي الخدمة العامة.
وأعلم أن الطريق شاقّة وطويلة، لكنّ استرجاع بيروت لدورها الريادي في صنع القرار ليس مستحيلاً. وبيروت، ست الدنيا وأمّ الشرائع تستحق منا أن نبذل كل جهد في سبيل النهوض بها وإعادة عزها ومجدها حاضراً ومستقبلاً.
عشتم، عاشت بيروت، وعاش لبنان
الجلسة الأولى: أدارتها السيدة لينا حمدان
موقع بيروت ودورها الوطني منذ الاستقلال وحتى اتفاق الطائف
الدكتور خالد قباني
وزير سابق
أحسن منظمو مؤتمر موقع بيروت في القرار الوطني في تحديد الموضوع الأول للمؤتمر تحت عنوان: موقع بيروت ودورها الوطني، لأن بيروت كانت دائماً ذات موقع ودور. إنها، من حيث الموقع، عاصمة لبنان، لبنان الوطن السيد الحر المستقل، ومحور الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والوطنية، ومركز السلطات الدستورية، بيروت الرمز الجامعة لكل السلطات، لأم السلطات برلمانها، لعصب السلطات حكومتها، لميزان السلطات قضاؤها، بيروت عاصمة الوطن الواحد، ليست مساحة جغرافية إدارية، هي كيان دستوري، حدودها حدود الوطن، ودورها، دور بيروت، هو دائماً دور وطني، عندما تنطق، فهي تنطق باسم لبنان، وهي عندما تتحدث، إنما تتحدث باسم جميع اللبنانيين. بيروت ملتقى اللبنانيين، وعاصمة الوطن الواحد، وصاحبة الدور الوطني الجامع، بيروت هي كل لبنان وكل لبناني، بيروت الحضارة والرقي والتقاليد الراسخة، بيروت العلم والقيم والأخلاق، بيروت الفكر والثقافة والتضامن والتسامح والأخوة والعيش المشترك، بيروت الاعتدال والانفتاح والتواصل والحرية، بيروت الوطن والوطنية وبيروت القرار، القرار الوطني الجامع.
وقرار بيروت دائماً لبنان الواحد الموحد، وحدة الأرض والشعب والمؤسّسات، قرار بيروت الولاء للدولة، قرار بيروت الانتماء العربي الحضاري الأصيل المتحرر من العصبية والتبعية والانعزال والتقوقع، قرار بيروت الإنماء المتوازن، حيث لا فوقية ولا طبقية ولا “فئوية”، حيث العدالة، تَعُمْ، حيث المساواة تسود، حيث الحق يعلو، حيث لا مناطقية ولا إقليمية، حيث الوطنية تجمع، حيث علم لبنان يرفرف فوق كل الساحات.
فما هي الخلفيات التاريخية لنظامنا السياسي، وما هي المقومات التي تجعل هذا النظام محصناً وأقل اهتزازاً وتعرضاً للأزمات المتلاحقة؟
أولاً: في الخلفيات التاريخية:
تمحورت الحياة السياسية في لبنان، في العهد الدستوري الممهد للاستقلال، أي بعد قيام الدستور اللبناني في 23 أيار سنة 1926، بين كتلتين، الكتلة الوطنية برئاسة إميل إده، والكتلة الدستورية برئاسة بشارة الخوري، وقامت على فكرتين: الفكرة اللبنانية، والفكرة العربية، مثَّل الأولى تيار لبناني رأى في لبنان وطناً قومياً مسيحياً موسعاً، وفي القومية العربية خطراً على لبنان واستقلاله، ومثَّل الثانية، تيار واقعي وجد أن التعاون المسيحي- الإسلامي ممكن وضرورة لقيام دولة مستقرة وحكم ناجح، ووجد أن معارضة الانتداب الفرنسي والمطالبة بالاستقلال يشكل نقطة التلاقي بين المسيحيين والمسلمين.
استمر التجاذب ودارت المناقشات حول فكرة الاتصال والانفصال، ووجدت الكتلة الدستورية في المخرج السياسي الذي صاغه كاظم الصلح وتقي الدين الصلح، باعتبار لبنان دولة مستقلة ذات شخصية مميزة في المجموعة العربية أساساً للتفاهم الوطني بين المسيحيين والمسلمين.
لم يؤمن هذا الموقف المرتبك التوافق المطلوب بين اللبنانيين، وشهد لبنان جولات من الأحداث الأمنية لم تنتهِ إلاّ بعد انعقاد مؤتمر الطائف في السعودية في سنة 1989، وإعلان وثيقة الوفاق الوطني التي عرفت باتفاق الطائف، التي تضمنت حلولاً للمعضلات والخلافات والصراعات التاريخية والقضايا الوطنية والسياسية.
ثانياً: مقومات النظام السياسي اللبناني وبناء الدولة:
أتى اتفاق الطائف ليسحم الصراع بصورة واضحة حول هوية لبنان، فجاءت مقدمة الدستور لتقول: “لبنان عربي الهوية والانتماء”، ولكن لم يشأ الطائف أن يثير هواجس ومخاوف المسيحيين من جديد، فنصّ في البند الأول من مقدمته على أن “لبنان وطن سيد حر مستقل، وطن نهائي لجميع أبنائه، واحد أرضاً وشعباً ومؤسسات”.
أتى الطائف متوجهاً لكل اللبنانيين بالقول أن لا فرز للشعب على أساس أي انتماء كان، ولا تجزئة ولا تقسيم ولا توطين، وان لبنان عربي الهوية والانتماء جغرافياً ولغة وثقافة وسياسة واقتصاداً ومصيراً، وان عروبته وانتماءه ليس غريباً عن واقعه وتاريخه، ولا إكراه فيه، أو هو منقطع عن انتمائه العربي، بل ان المسيحيين كانوا رواد القومية العربية، وما عضوية لبنان ومشاركته في تأسيس جامعة الدول العربية إلاّ تجسيداً لعروبته وانتمائه العربي.
وضع الطائف مقومات ومعالم وأسس النظام السياسي الكفيلة بتعزيز الحياة المشتركة بين اللبنانيين. ولم تجر الأمور على قدر الأماني والتطلعات، لأنّ الممارسة السياسية جاءت عكسها، فزادت المخاوف واحتدمت المشاعر الطائفية، بل تعمقت الانقسامات الطائفية لكي تتحول إلى صراعات مذهبية حادة، مما أفقد هذه الحلول التي تبلورت في نصوص دستورية معناها ومضمونها، وأصبح الكل يعيش حالة قلق وخوف.
هل يعني ذلك أنّ الأمل قد فقد في بناء دعائم الدولة، أو أنّ الطائف وما اجترحه من إصلاحات قد مني بالفشل وأنّ فرصة استعادة الوطن والدولة قد زالت؟
أقرّ الطائف مجموعة من القواعد والمبادئ الأساسية في الحكم وانتظام عمل السلطات هدف منها حلّ المشاكل والنزاعات التاريخية بين اللبنانيين وتنظيم العلاقات فيما بينهم، بما يعزّز عيشهم المشترك وبناء دولة تقوم على قِيم الحق والحرية والديموقراطية والمساواة والعدالة والشفافية وتفتح أمامهم طريق المستقبل. ولو قدّر لهذه القواعد والمبادئ أن تطبق تطبيقاً سليماً وبحسن نيّة لكانت كفيلة برأينا بإخراج لبنان من أزماته وبتحويله إلى نموذج حضاري للعيش المشترك الإسلامي المسيحي.
ولعلّ من أبرز هذه المبادئ والقواعد الدستورية التي تشكّل منهجاً في الحكم وتؤمّن فرصاً لبناء الوطن والدولة، والتي نعتبرها من مقومات النظام السياسي اللبناني: قاعدة العيش المشترك، قاعدة المشاركة في الحكم، وقاعدة المناصفة في التمثيل السياسي في المؤسسات الدستورية، وقاعدة الهيئة الانتخابية الموحدة، وقاعدة الإنماء المتوازن واللامركزية الإدارية الموسعة، وقاعدة إلغاء الطائفية السياسية وإنشاء مجلس الشيوخ، وقاعدة لبنان أولاً، واعتبار رئيس الجمهورية رئيساً للدولة ورمزاً لوحدة الوطن، أي المرجع الوطني الحامي للدستور وللسلم الأهلي، وليس فريقاً في الصراع السياسي، بل يلعب دور الحكم في الصراع السياسي الداخلي في نظام سياسي ديموقراطي برلماني يقوم على مبدأ فصل السلطات وتوازنها وتعاونها.
خلاصة:
إن لبنان بموقعه الجغرافي وطبيعته وغناه الإنساني وتركيبته الاجتماعية وتنوعه الثقافي الذي يعتبر مصدر غنى ونموذجاً للحياة المشتركة، يملك من القدرات والمقومات والإمكانات الذاتية ما مكّنه من مواجهة الأحداث والتحديات الكبيرة التي رافقته طيلة تاريخه الحديث، وكانت بيروت دائماً في قلبها، إلاّ أنّ لبنان غدا بفعل انقساماته المتمادية بلداً يفتقر إلى الأمان والاستقرار وغرضة للاهتزاز الدائم. كيف السبيل إلى الخروج من هذا المأزق؟ هذا هو السؤال الكبير؟
على اللبنانيين أن يعوا ويدركوا، كما جاء في مذكرة بكركي الوطنية تاريخ 09/02/2014، أنّ مشروعهم الوطني لا يمكن أن يتجذّر في الواقع وأن يستمر إلاّ إذا أنتج دولة قوية وعادلة وقادرة. ولعل أكثر خطر على نظامنا السياسي وعلى الاستقرار هو انجرار أهل السياسة إلى الاستقواء بالخارج في الصراع السياسي الداخلي أو التفرد بالسلطة أو اتباع سياسة الإلغاء والهيمنة.
إنّ سرّ بقاء لبنان واستمراره، رغم الصعوبات والفتن والحروب يكمن في العيش المشترك بين اللبنانيين الذي يؤمّن مناعتهم وحصنهم ويشكّل ضمانة وجودهم وحريتهم وسيادتهم واستقلالهم. وكم كان البابا يوحنا بولس الثاني صاحب رؤيا عندما قال: “إنّ لبنان هو أكثر من بلد، إنه رسالة”، وأضيف: إنه وجه بيروت الذي يخرج من اتفاق الطائف موحداً ويمثل ضمير لبنان الواحد.

البروفسور أنطوان مسرّة
عضو المجلس الدستوري سابقاً
الهوية والانتماء
جاءت مقدمة الدستور لتقول: “لبنان عربي الهوية والانتماء، أن “لبنان وطن سيد حر مستقل، وطن نهائي لجميع أبنائه، واحد أرضاً وشعباً ومؤسسات”.
وان عروبته وانتماءه ليس غريباً عن واقعه وتاريخه، ولا إكراه فيه، أو هو منقطع عن انتمائه العربي، بل ان المسيحيين كانوا رواد القومية العربية، وكانوا في أساس النهضة العربية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ومازالوا، وما عضوية لبنان ومشاركته في تأسيس جامعة الدول العربية إلاّ تجسيداً لعروبته وانتمائه العربي.
وعندما نتكلم عن قيام “دولة لبنان الكبير” لا بد من التشديد على كلمة “الدولة”، ومفهوم الدولة يختصر كل المعاني من الهوية الى السيادة الى الادارة المركزية للمؤسسات العامة وانتظام عمل المؤسسات والسلطات الثلاث، بحيث يكون رئيس الجمهورية هو رئيس الدولة وهو المرجع والحكم ولا يجوز أن يكون طرف.

نجحت هذه الدولة في إدارة “التعددية” بالاستناد الى المواد الست 9/10/19/49/65/95 التي تصنّف الدستور كنظام برلماني تعددي على قاعدة التمييز الايجابي وإدارة التعددية في وطن الـ19 طائفة أمر غير صعب في حال الالتزام بمواد الدستور والقانون كتعبير عن العقد الاجتماعي لتصبح الحياة المشتركة ممكنة.
وتكمن معضلة لبنان في مصالحة الجغرافيا والتاريخ وتعزيز الذاكرة والهوية لتستعيد بيروت موقعها كمنارة للتشريع والحريات وتعزز نجاحها في جمع الانتماء العربي الحضاري والانفتاح على العالم من خلال تفاعل وتعاضد كافة مكونات المجتمع الذي جعل من بيروت وجهة للعلم والثقافة والتعليم والطبابة.
ما العمل لاحياء تراث بيروت:
1– الحياة في وسط المدينة: هذا الوسط هو مكان التواصل والالتقاء والتعبير عن وحدة بيروت ولبنان، على نمط مرحلة ما قبل 1975. يقتضي بالتالي العمل على استعادة الحياة المشتركة في وسط بيروت. هذا ما سعى اليه الرئيس الشهيد رفيق الحريري. وهذا ما أرادت القضاء عليه قوى الاحتلال.
2-بيروت أم بيروتات؟ بسبب التفاوت الكبير في التنمية والتواصل، بيروت اليوم الى بيروتات، وكأنك تنتقل من بلد الى آخر! لم يكن ذلك شعور البيروتيين لمرحلة ما قبل 1975. بيروت اليوم منقسمة الى بيروتات بسبب التباين الضخم في التنمية. انها معضلة عالميًا وتحدّ لسياسات المدينة في عالم اليوم.
3-بيروت انتخابيًا: ان خرق مبدأ الهيئة الانتخابية الموحدة في الانتخابات حيث مرشحين من طوائف مختلفة يُنتخبون من مواطنين من عدة طوائف يعيد انقسام بيروت، خلافًا لطبيعة نسيجها الاجتماعي وتواصل أبنائها. يخرق القانون الانتخابي الأخير ثبات مبدأ انتخابي منذ 1920.
4-نواب بيروت: هل هم معنيون فقط بالانتخابات، أم معنيون بسياسة المدينة؟ أي تجمع؟ أي تواصل؟ أي برامج لبيروت؟
5-بلدية بيروت: لا يقتصر العمل البلدي الضخم على شؤون قانونية ومالية وإدارية…، بل يشمل التواصل مع أهل المدينة في سبيل المشاركة في التنمية على نمط ما تفعله بلديات عديدة في العالم. ان العمل على إحياء لجان احياء في سبيل نوعية الحياة في الأحياء، انسجامًا مع القوانين المرعية وتفسيراتها، هو بالغ الضرورة.
6-الذاكرة والتراث والمناعة الوطنية: الحاجة قصوى، ثقافيًا وتربويًا، في سبيل اكتساب اللبنانيين وجيل الشباب، مناعة بالمعنى الطبي تجاه محاولات خرق تراث المدينة. يعني ذلك ضرورة المراجعة بالعمق في كتابة تاريخ اللبنانيين، بمنهجية علمية وواقعية في آن، ومع الاعتماد على علم النفس التاريخي ومن خلال مختلف وسائل التنشئة.
7-أسماء الشوارع: وضع معايير في تسمية الشوارع في بيروت، اذ بالإمكان كتابة تاريخ اللبنانيين من خلال أسماء الشوارع، فلا تكون بعد اليوم التسميات في سبيل الوجاهة والتعظيم وفقط للاستدلال. والحاجة الى نشر ما كتب حول أسماء الشوارع في بيروت وتعميم مباراة بين التلامذة في كتابة تاريخ اللبنانيين من خلال أسماء الشوارع. هل يشعر اللبناني حين يمر في الأوزاعي وشارع رياض الصلح وبشارة الخوري وعبد الوهاب الإنكليزي وغيرها… أنه يعيش التاريخ؟

الجلسة الثانية: أدارها المحامي ميشال فلاح
موقع بيروت ودور ممثليها في حكومات ما بعد الطائف
الأستاذ محمد المشنوق
وزير سابق
يهمني من بداية كلمتي أن أحيي ملتقى بيروت لاختياره موقع بيروت في القرار الوطني عنواناً لهذا المؤتمر رغم أني قد اختلف مع الملتقى بعبارة موقع بيروت لأنّ العاصمة ليست موقعاً جغرافياً وليست كذلك موقعاً تنحصر فيه تطورات الوطن.
وأتوقف عند دور بيروت لمرحلة ما بعد الطائف لأؤكد أننا لسنا في معرض تقييم الحكومات التي تتالت منذ أكثر من ثلاثين عاماً حتى اليوم. فالحكومات لا تمثل بيروت وحدها ولكنها تمثل القوى السياسية التي استطاعت أن تدخل الحكومة بقدرة مؤلفيها ومن وراءهم من ضغوط محلية يسميها البعض فائض القوة، وضغوط خارجية تحوّلت بعد اتفاق الطائف إلى قوى ضاغطة.
واذا كان البعض يريد تقسيم مرحلة ما بعد الطائف إلى جزئين: الأول مرحلة ما قبل اغتيال الشهيد رفيق الحريري والثانية من العام 2005 وحتى اليوم، فالواضح أن الدور في المرحلة الأولى كان منسجماً مع إرادة الوجود السوري في لبنان يبرز عند تشكيل كل حكومة. امام هذا الواقع لست من يرغب في الحكم على الذين تولوا المسؤوليات منذ تطبيق اتفاق الطائف وحتى اليوم, واذا كنت سأعرض بعض المواقف التي أبرزت دور بيروت في القيادة السياسية في بعض مراحل الحكم فأن هناك من العناصر المؤثرة التي فرضت نفسها سلباً او ايجاباً على واقع الحكومات وسأترك للتاريخ المقارنة.
لقد حمل اتفاق الطائف مجموعة من الأهداف السياسية والإصلاحات المطلوبة للخروج من الانقسام الداخلي و تحقيق الدولة المدنية، حيث يتساوى المواطنون أمام الدستور والقانون، وحيث ينهض لبنان الذي أراده البعض الآخر دولة ديموقراطية تلتزم حقوق الإنسان وتبرز بين الدول المحيطة بها كنموذج يحتذى.
لقد شعر السياسيون وأكاد اقول بدون استثناء، بأنّ ما واجهته بيروت خلال الحرب الأهلية وما تعرضت له من تخريب وتهديم، طرح نفسه قضية تحتاج إلى تنفيذ خطط إنمائية عاجلة تعيد الحياة إلى مرافقها، وتفسح المجال لإعادة انتاج القيادة السياسية فيها.
أولى هذه المحاولات كان إعادة الحياه إلى بيروت وسطاُ و مناطق وخدمات أساسية وبنية تحتية وكل ماتحتاجه عاصمة مركزية في موقعها، وما يريد أبناؤها وساكنوها من جميع المناطق اللبنانية. هكذا بدأت قصة نهوض وسط بيروت وبدأت محاولات كل التعديّات على هذه المدينة الصامدة، وكل المخالفات التي خططها ونفذها وطبعها شيطان التهاون والفساد والمحاولات المستمرة التي أرست فلسفة وثقافة ترضى بالفساد وتفسح المجال أمام تطبيقه، وكان ذلك على حساب المدينة وعلى حساب الوطن.
ثانيا: لقد حمل اتفاق الطائف تميزا خاصا ً للعلاقات بين لبنان وسوريا، ولم يكن ذلك انجازاً ثنائياً بل كان بمباركة عربية ودولية. وقد ترجم هذا الاتفاق في معاهده وقعت بين البلدين عام 1991 التي نصت على الروابط الأخوية والتي تستمد قوتها من جذور القربى والتاريخ والإنتماء الواحد والمصالح المشتركة .
إلاّ انّ هذه العلاقات المرجوّة مرت بمراحل بدأت بضبط القوى المتصارعة تمهيدا لتجريدها من السلاح ثم الانتقال التي تطبيق بنود اتفاق الطائف في إعادة هيكلية النظام السياسي .
هذه العلاقات لم تنتج المساواة بين البلدين والنديّة في الأدوار بين الطرفين. وفي الوقت الذي كان فيه لبنان يسعى للقرار 1559 ليحقق انسحاب القوات السورية كاملة من لبنان، كانت قوى أخرى تعمل على تجاوز مثل هذا القرار وما أشار فيه من أنّ العلاقات المميزة تحولت إلى عبء سوري على أكتاف الأطراف اللبنانية، التي تعبت من تداخل مبدأ العلاقات المميزة مع العلاقة الإملائية التي كانت تمارس مع جميع القيادات السياسية، منذ دخلت القوات السورية إلى لبنان وحتى ما بعد تطبيق اتفاق الطائف.
ولان بيروت تتحمل دائماً أثقال الوطن فقد كانت قيادة بيروت السياسية هي التي تتمثل في رئاسة مجلس الوزراء،، وفي تشكيل الحكومات وتحديد البيانات الوزارية وصياغة مشاريع القوانين والمراسيم التطبيقية.
الحكومات التى تشكلت قبل 2005 والقياده السياسية في بيروت اتسمت بتسويات بالتوازنات بين القوى التي فرضها النظام السوري بتدخلات سياسية ومخابراتية، إلاّ أنّ اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري في العام ٢٠٠٥ أثّر على العلاقات بين البلدين، وأدى إلى تراجع بمواقف القوى السياسية، كما أدى إلى انسحاب القوات السورية من لبنان وسط ضغط دولي وضغط شعبي داخلي. وانتقلنا في المرحلة الثانية إلى ما بعد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري.
لقد لمسنا في هذه المرحلة تعاطفاً كبيراً أدى الى اتفاق كبير حول الرئيس سعد الحريري، ولعبت التحالفات أدواراّ كبيرة تحت شعار 14 آذار مقابل ۸ آذار, وكان ذلك في انشقاق عامودي حرم بيروت من قيام المجتمع المدني فيها بدور سياسي قابل للنمو, إذا كان لاتفاق الطائف أن يشهد تطبيق ما لم يتم تنفيذه مثل إلغاء الطائفية السياسية بصورة تدريجية وتشكيل مجلس الشيوخ وتحرير قانون الانتخاب النيابي من القيد الطائفي، فان هذه المعوقات حالت دو التطوير المطلوب.
يهمني هنا أن اتوقف أمام شعور البعض بأنّ الفترات التي تعاقبت فيها مجالس وزراء في عهود مختلفة لم تكن تلبّي الطموحات السياسية لممثلي العاصمة بيروت. وقد أدى قانون الانتخابات إلى تراجع الكتلة الرئيسية التي كانت تتمثل بتيار المستقبل، كما أدت إلى تراجع كبير بالأنشطة التي كانت تبرز صورة بيروت كعاصمة ثقافية ومهد للحرية والديموقراطية وكرامة الإنسان.
كان واضحاً أنّ التراجع شمل كل ما كان يعول عليه المواطنون اللبنانيون من نهضة في تطبيق القوانين ومنع الفساد ومعاقبة المرتكبين حتى قيل أنّ ثقافة القبول بالفساد باتت هي السائدة، وأنها جزء اساسي مواكب لايّ قرار أومشروع أوعملية نهوض. وتحولت الأنشطة كلها لخدمة مصالح القوى السياسية المتناحرة وغابت مصلحة لبنان، وبدت القيادات السياسية وكأنها تقوم بعمليات انتقامية مستمرة ضد اتفاق الطائف، وضد الدستور والقانون النافذين,
وما ينطبق في التعميم ينطبق كذلك في التخصيص، وهنا اقصد في هذه الكلمة دور القيادة السياسية في بيروت التي تشرذمت وغابت عنها التكتلات الأساسية الفاعلة.
تسألون ويسأل المواطنون ما هو الذي يحصل الآن بيروت. لا أريد ان أكون متشائماً، لكن بعض الواقعية يبرز في صورة لا تليق بعاصمتنا التي شهدت تراجعاً مخيفاً في بنيتها التحتية وشوارعها وكهربائها ومائها وفي شبكاتها الاتصالية،حتى قال سياسي قديم ساخراً لقد فرضوا علينا ان نفاخر بمدينة تقارب القرى الكبيرة.
طبعاً السؤال هو أعمق من الهبوط العام بالبلد في كل مجال، ولكن تراجع بيروت يرتبط بواقع بلدية بيروت وبواقع الموازنات لإصلاح ما يمكن إصلاحه. ولا ضرورة للقول إنّ كل ذلك لم يثن أبناء العاصمة عن إعلاء الصوت والبحث عن حلول استثنائية لوقف التدهور. وندرك أنّ هذا الكلام لن يحرّك المجلس البلدي العاجز، ولا المحافظ المقيّد، ولا وزير الداخلية الذي يشاركنا الشكوى والرغبة في الخروج من هذه الازمة.

الجلسة الثالثة: أدارها الدكتور نبيل نجا
استعادة بيروت لموقعها الوطني ودورها الرائد
الرئيس غسان حاصباني
نائب رئيس مجلس الوزراء سابقاً، نائب حالي
ميزات بيروت التفاضلية التي يمكن البناء عليها لدور بيروت المستقبلي تتضمن:
1-موقع جغرافي في منتصف دائرة قطرها ٤٤٠٠ كلم يتقاطع في بيروت من إيطاليا غرباً إلى إيران شرقاً، ومن أوكرانيا وروسيا شمالاً إلى باب المندب جنوباً.
2-تعدّدية بيروت الثقافية والدينية والنظام الديموقراطي فيها.
3-كون بيروت مركز الدولة اللبنانية، فذلك يجعلها مركزاً حيوياً للقرار المحلي والإقليمي وقابلية عالية على التنافس.
4-بيروت واحدة من ٨ عواصم فقط تقع مباشرة على شاطئ المتوسط والوحيدة التي تقع على قارة آسيا في المتوسط وترتبط جغرافياً بها فيمكنها أن تكون صلة وصل بين آسيا وأوروبا.
للاستفادة من هذه الميزات، علينا ترتيب البنى التحتية، وإعادة هيكلة المقاربة الإدارية والتنظيمية بحسب ميزات المناطق البيروتية المتعددة، واستحداث مناطق اقتصادية خاصة داخل بيروت تخضع لقوانين مستقلة لتشجع الاستثمار، وتوسيع صلاحيات البلدية المالية والاستثماريّة.

ويجب تقسيم المهام المطلوبة بالأولويات من الأساسية إلى المتقدمة كالتالي:
إعطاء أولوية وطنية للكهرباء في بيروت التي تشكل أساساً في المجتمع الحضاري:
-إنشاء معامل انتاج للكهرباء خاصة ببيروت بقدرة ١٣٠٠ ميغاوات إما مركزية، أو موزعة على معملين أو موزعة على ١٠ معامل لا مركزية بمرارات محطات التوزيع. اذ يسكن ويعمل في بيروت أكثر من ثلث سكان لبنان وهي تتطلب ثلث القدرة الإنتاجية للكهرباء.
-إدارة شبكات التوزيع وصيانتها على نطاق بيروت بشكل متكامل مع الإنتاج.
-إصدار تراخيص خاصة بموجب قانون خاص لإنتاج الطاقة وتوزيعها والفوترة تحت إشراف بلدية بيروت وإدارة القطاع الخاص.
شبكات المياه:
– تحديث شبكة المياه والاستثمار في تطوير محطات الضخ التي تغذي بيروت وتغذيتها بالكهرباء كأولية، وصيانة الشبكة التي تغذي المدينة.
التخطيط المدني:
-مسح الأبنية القديمة ومعالجة تلك الآيلة للسقوط والحفاظ على الأبنية التراثية وتنظيم انشاء الأبنية الجديدة بحسب المناطق.
-إشاء طرقات وأنفاق لتخفيف الاختناقات بين مناطق بيروت الرئيسية.
-إنشاء نقل حضري مشترك في بيروت ووضع مرائب للسيارات بالقرب من مداخل المدينة.
-توسيع وإدارة المساحات الخضراء وطرق المشاة لتحسين بيئة المدينة.
-تطوير شبكة الصرف الصحي للتماشي مع التوسع العمراني.
الاقتصاد:
-إنشاء مجمّعات اقتصادية متخصصة بقانون خاص، في مجالات مختلفة لتصدير الخدمات والسلع ذات القيمة العالية والتي لا تتطلب مساحات صناعية كبيرة.
-تعطى هذه المناطق إعفاءات ضريبية خاصة وتسهيلات قانونية واجرائية لتشجيع الاستثمار فيها.
-تفعيل مرفأ بيروت كمرفأ تجاري واقتصادي ووضع ادارته تحت نموذج الادارة الخاصة مع احتفاظ الدولة بملكيته وضمه اداريا وعقارية إلى بلدية بيروت لتكون رسومه وجزء من عائداته مخصصة للمدينة.
الإدارة:
-إعطاء بلدية بيروت القدرة على الاقتراض والتعاطي مع المؤسّسات التمويلية الدولية على غرار الوزارات، لاستقطاب التمويل المناسب لمشاريعها باستقلالية.
-تحديث نظام الانتخابات البلدية والإدارة لتحسين التمثيل والتفاعل بين البلدية والمناطق المحلية التي تتكون منها المدينة، وتعزيز المحاسبة والشفافية.
-وضع آلية وهيكلية تنفيذية وتقريرية لإصدار وتنفيذ قرارات تنظيمية قد تختلف من منطقة إلى اخرى داخل بيروت بحسب ميزاتها واختصاصها وطابعها (مثلا اكثر سكنية ام تجارية ام سياحية ام ادارية او صناعية…)
-توسيع صلاحيات واستقلالية المدينة الإدارية والمالية مثل القدرة على استثمار أموالها للحفاظ على قيمتها وتعظيمها للاستثمار في مشاريع كبرى.
السياسة:
-تحييد بيروت عن الصراعات السياسية الداخلية والخارجية.
-منع وجود السلاح غير القانوني فيها، وتعزيز وجود القوى الأمنية في العاصمة.
-نقل النازحين واللاجئين إلى مناطق أقل اكتظاظا خارج العاصمة.
بهذه الخطوات، يتم تمكين بيروت لتستعيد دورها المحوري في التجارة الشرقية مع أوروبا وربط الدول المتنافسة على خطوط التجارة هذه، بدل أن تكون نقطة صراع للمتنافسين، ما أدى إلى تدميرها على عدة حقبات من قبل الغزاة، لكنها لطالما عادت ونهضت لاستعادة دورها وتطويره.
لدى بيروت وأهلها قوة هائلة على إعادة تكوين الذات واستنهاض القدرات مهما مرّ عليها من تحدّيات وهي فعلاً قادرة على لعب دور أساسي على مستوى لبنان والمنطقة وقد أثبتت على ذلك مراراً.
الأستاذ صلاح سلام
رئيس تحرير جريدة اللواء
الحديث عن بيروت هو في الواقع الكلام عن مدينة تاريخية عريقة، متميّزة بفرادتها التعددية، في تنوعها الثقافي، في حرصها على الحريات، في تصديها للأزمات، بل في صمودها أمام النكبات، وفي رفضها الدائم للتخاذل والإستسلام للفتن.
بيروت عاصمة حضارية يعود تاريخها إلى ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد، تعايشت مع مختلف الثقافات التي مرت في المنطقة، وإحتلت مكانة خاصة في مختلف العصور، وحملت لقب أم الشرائع في العصر الروماني، وكانت محط العلماء في العصر الإسلامي،
وأنشئت فيها أول مدرسة مهنية في بلاد الشام أواخر القرن التاسع عشر، في عهد السلطان عبد الحميد في نهايات العصر العثماني.
شكّلت بيروت الضلع الرابع في مربع المدن الحضرية في الشرق العربي، القاهرة ودمشق وبغداد، وكانت تتمتع بمزايا فريدة رغم زنها لم تكن عاصمة للامبراطوريات والدول الكبرى التي قامت على فترات تاريخية مختلفة في المنطقة.
بقيت بيروت على تميزها الحضاري والثقافي والمُدني حتى أواسط السبعينات من القرن الماضي، فكانت جامعة العرب ومستشفاهم، وكانت واحة الحرية والديموقراطية في المنطقة، وكانت المنبر الدائم لحركات التحرر وقياداتها، من كاسترو وغيفارا في كوبا وأميركا الجنوبية، إلى مانديلا وحركته ضد العنصرية في جنوب إفريقيا، ومن ثورة المليون شهيد في الجزائر غرباً، إلى حركة تحرير عدن وجنوب أفريقيا، وكانت دائماً الخط الأول في الدفاع عن القضية الفلسطينية، متحملة كل التداعيات السياسية والأمنية بصلابة وشهامة.
بيروت التي عرفناها في زمن الإستقرار والبحبوحة والإزدهار، والتي تساءل الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، ذات يوم، متى يمكن أن تصبح دبي مثل بيروت، لم تعد على الصورة البهية التي كانت عليها في تلك الفترة الذهبية، منذ بدأت قواعد الدولة وأسس النظام اللبناني بالإهتزاز مع إندلاع الحرب السوداء في نيسان ١٩٧٥، وصولاً إلى الإنهيار الشامل الحالي الذي ضرب مفاصل الدولة، وأصاب السلطة بالشلل الدماغي.
بيروت هي قلب الوطن النابض، مركز السلطة المركزية، هي اللوحة الزاهية بألوان الطيف اللبناني، وهي مدينة التعايش والإختلاط اليومي بين اللبنانيين، على إختلاف طوائفهم، ومن مختلف مناطقهم.
ولكن القلب يضعف عندما يهدد سرطان الإنقسام وحدة الوطن. والمركز يهتز عندما تتلاشي السلطة المركزية، واللوحة الزاهية تخبو عندما تحتل العصبية الطائفية والمذهبية مكان الخطاب الوطني، وتتحول المدينة إلى ما يشبه المسرح المهجور، عندما يرتفع ضجيج الإنعزال والقوقعة فوق أصوات التعايش والإختلاط.
بيروت تتحمل منذ فترة ليست قصيرة أعباء الإنعكاسات السلبية للصراع المزمن على السلطة، وما يسببه من ضعف الشرعية المركزية، وتعطيل مرافق الدولة، وغياب الخطط والمشاريع الإنمائية. وما يُقابل كل ذلك من نمو شُلَل الفساد، وإستباحة المال العام، وتسخير قدرات البلدية المالية والخدماتية للمحاسيب والأزلام، وهدر الملايين من الدولارات، يوم كان رصيد بلدية بيروت على عتبة المليار دولار، والذي ذهب ما تبقى منه في مهب إنهيار الليرة، والعاصفة الهوجاء التي ضربت اقتصاد البلد.
النفايات تتكدس في الشوارع، والدولة تبحث عن المطامر، والدول المتقدمة تُحوّل الزبالة في المعامل الحديثة إلى منتجات تساهم في إنعاش الإقتصاد الوطني.
سيدة العواصم تبقى عطشى ومحرومة من المياه النظيفة معظم أشهر السنة، رغم أن أهلها يدفعون أغلى الإشتراكات بين دول المنطقة.
ولا ضرورة للحديث عن الكهرباء لأننا جميعاً نعاني مآسي الهدر والفساد والإستنسابية في هذا القطاع الحيوي، ولا من يسأل عن إنشاء محطة كهرباء لبيروت من أموال أهلها وسكانها، على غرار ما يحصل في مناطق أخرى.
أما تدني الخدمات فقد وصل إلى مستوى غير مسبوق في العاصمة، حيث تراجعت المساحات الخضراء، وغرقت الحداذق العامة بالإهمال، وتحولت مزروعات الوسطيات في الشوارع إلى أطنان من اليباس.
هذه الظلمة التي تلف بسوادها بيروت ليست قدراً، بقدر ما هي من نتائج ظلم الدولة لسيدة العواصم، وتخلي من بيده الحل والربط عن مسؤوليته في رعاية المشاريع الحيوية للمدينة التي تحتضن مع ضواحيها أكثر من ثلث سكان لبنان.
في ذروة مرحلة القحط والضياع التي هيمنت على بلدية بيروت، برزت مبادرات فردية رائدة للتخفيف من واقع الإهمال والمعاناة عن العاصمة وسكانها، بدأت يمبادرة مؤسسة مخزومي بإنارة كورنيش المزرعة والعديد من شوارع الدائرة الثانية في بيروت، فضلاً عن دعم إعادة تأهيل بعض مرافق البنية التحتية. فيما عملت جمعية “ربيرث بيروت” وجمعيات أخرى، على إنارة الأشرفية والعديد من شوارع الدائرة الأولى.
هذه التجارب كرست أهمية مبادرات المؤسسات الأهلية وجمعيات المجتمع المدني، في تفعيل العمل البلدي، والتفاعل مع السلطة التنفيذية في محافظة بيروت، لتلبية حاجات المدينة وسكانها الحيوية، والدفع قدماً بتحسين مستوى الخدمات العامة، حتى تسترجع العاصمة بعض من تألقها السابق.
في إستعادة دور بيروت الوطني كانت بيروت حاضرة دائماً في الحركات الوطنية، اللبنانية والعربية، وصولاً
إلى بعض حركات التحرر في العالم.
واختصاراً للوقت سأكتفي ببعض المحطات الحاسمة في العمل الوطني اللبناني، حيث تعتبر بيروت هي الحاضن والمحرك في الأحداث الوطنية الكبرى، بدءاً من الحركة الاعتراضية ضد عهد الرئيس بشاره الخوري، والتي أدت إلى سقوط أول عهد إستقلالي، إلى “ثورة ٥٨” لمنع التجديد للرئيس كميل شمعون، إلى مواكبة المعارضة والأحداث التي إندلعت في بيروت وأدت إلى إسقاط إتفاق ١٧ أيار ١٩٨٤مع العدو الإسرائيلي.
ولكن أود أن أركز على حدثين كبيرين يحتلان مكانة مميزة في الذاكرة الوطنية:
الحدث الأول: تظاهرة ١٤ آذار ٢٠٠٥ المليونية في قلب بيروت،. التي شكلت أول إلتحام وطني بين المسلمين والمسيحيين منذ انتهاء الحرب البغيضة. وأنتجت جبهة وطنية سيادية عريضة، ضمّت أحزاباً وتيارات مسيحية وإسلامية، رفعت شعار لبنان أولاً، وشكلت محطة مهمة في مسار العمل الوطني، قبل أن تدب الخلافات الرئاسية بين أركانها وتؤدي إلى تواريها عن المسرح السياسي.
الحدث الثاني: ثورة ١٧ تشرين ٢٠١٩، والتي انطلقت من قلب بيروت أيضاً، وجمعت أطيافاً سياسية وطائفية مختلفة، وسرعان ما تمدد لهيبها إلى مختلف المناطق اللبنانية، وجسّدت وحدة اللبنانيين في إدانة المنظومة الفاسدة والفاشلة، وكرست الموقف الوطني الواحد المطالب بالتغيير والإصلاح، وإنقاذ البلد من تسونامي الانهيارات المالية والاقتصادية والاجتماعية التي كانت تلوح في الأفق.
وعندما خبت شعلة الثورة في بيروت، بسبب أعمال العنف المفتعلة في وسط العاصمة، إنطفأت شعلتها في مختلف المناطق.
إعادة التألق إلى بيروت، وإستعادة دورها الوطني ليست مهمة مستحيلة، ولكنها تتطلب رؤية وجهداً. قلنا بالأمس أن بيروت بحاجة لصدمة إيجابية، مثل صدمة الكهرباء للقلب المتعثر. وهذه مسؤولية مشتركة بين نواب بيروت والناشطين في المجتمع المدني، ليس لتأمين الخدمات الحيوية وحسب، بل وأيضاً للحفاظ على الحريات العامة، والأجواء الديموقراطية، واعتماد لغة الحوار سبيلاً لمعالجة الخلافات السياسية والحزبية، والإشكالات الطارئة، في إطار الحرص على منهج الاعتدال ونبذ التطرف، والعمل على تعزيز أسس المعادلة الوطنية على قاعدة الحفاظ على التوازنات، وعدم التفرد بالقرارات المصيرية، وضرورة احترام الرأي الآخر والتسليم بالتعددية السياسية التي يقوم عليها النظام الديموقراطي في لبنان.
وأخيراً، لكل مدينة حضارة، ولكل مدينة رسالة، ولكل عاصمة دولة ترعاها وتحافظ على مكوناتها. أما بيروت فهي مهد الحضارة، ومنطلق الرسالة، والعاصمة التي ترعى وتحافظ على الدولة ودورها في رعاية الشعب. ساحاتها منابر مفتوحة لخطابات الحرية والنقاشات الديموقراطية، وقلبها ينبض على إيقاع التنوع والإنصهار الوطني، وهي الحضن الدافئ لكل صاحب قضية في هذا الوطن المعذب، من تظاهرات الموظفين والمعلمين، إلى إعتصامات العسكريين المتقاعدين، إلى تجمعات الهىئات المدنية المنادية بحقوق المرأة والمعاقين وكل المهمشين. وإلى كل الأحزاب على اختلاف عقائدها من اليمين إلى اليسار، رغم التباين في مناهجها بين القوقعة والانفتاح، وبين التطرف والاعتدال.
في قلب بيروت تختلط أصوات المآذن مع أجراس الكنائس، وتسمع خطابات الجمعة وعظات الأحد، وتطرب لترنيمات الميلاد وأناشيد الإسلام، وتزهو بالمهرجانات الموسيقية والاحتفالات الفنية والثقافية.
أعزائي،
عندما يكون الوطن بخير تكون بيروت بألف خير.

التوصيات
في ختام أعمال المؤتمر صدر عن المجتمعين جملة من التوصيات، كان أبرزها:
في الهوية والانتماء
-التأكيد على نهائية الوطن اللبناني، وعلى أنّ لبنان عربي الهوية والانتماء؛
-التشديد على وحدة لبنان، وأن لا فرز للشعب على أساس أيّ انتماء، ولا تجزئة ولا تقسيم ولا توطين؛
-التأكيد على أنّ بيروت هي عاصمة لبنان وتشكّل كياناً دستورياً وسياسياً ووطنياً، وصاحبة الدور الوطني الجامع، وهي محور الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والوطنية، ورمز العيش المشترك والتسامح والأخوة والاعتدال والانفتاح والتواصل والحرية؛
-إبراز تاريخ بيروت، منذ إعلان “دولة لبنان الكبير”، في إطار مسيرة النضال من أجل الوحدة والاستقلال والسيادة والحرية، والحفاظ على العيش المشترك المسيحي -الإسلامي وتعزيزه؛
-تعزيز الذاكرة والتراث والمناعة الوطنية: الحاجة قصوى، ثقافياً وتربوياً، في سبيل اكتساب اللبنانيين وجيل الشباب، مناعة بالمعنى الطبي تجاه محاولات خرق تراث المدينة أي ضرورة المراجعة بالعمق لكتابة تاريخ اللبنانيين، بمنهجية علمية وواقعية في آن، ومع الاعتماد على علم النفس التاريخي ومن خلال مختلف وسائل التنشئة؛
-ضرورة توجيه الشباب لزيارة أهم المواقع الأثرية لمدينة بيروت والمعالم الحضارية (متحف بيروت الوطني وغيره) وتشجيعهم على استقبال شباب المناطق القريبة والبعيدة للتعرف على عاصمتهم (ضمن المدارس والجامعات) لتعزيز الروح الوطنية والمواطنة.
– في الحكم والحوكمة:
-أرسى الدستور اللبناني قواعد ومبادىء للحكم وانتظام عمل السلطات، وحلّ المشاكل والنزاعات التاريخية بين اللبنانيين، ووضع الأطر لتنظيم العلاقات فيما بينهم، وجاءت التعديلات التي أدخلها اتفاق الطائف لتعزيز عيشهم المشترك وبناء دولة تقوم على قِيم الحقّ والحرية والديموقراطية والمساواة والعدالة والشفافية، ومن الضروري استكمال تطبيق أحكامه والالتزام بتنفيذه بحسن نيّة؛
-إنّ الخطر الأكبر على نظامنا السياسي هو انجرار أهل السياسية إلى الاستقواء بالخارج في الصراع السياسي الداخلي، والتفرّد بالسلطة واتّباع سياسة الإلغاء والهيمنة والطمع بالسلطة؛ ولا بدّ من العودة إلى وضع مصالح لبنان واللبنانيين أولاً والحرص على عدم تنفيذ لأية أجندة خارجية لإبعاد لبنان عن سياسة المحاور؛
-إنّ رئيس الجمهورية، كما ينصّ الدستور، هو رئيس الدولة ورمز وحدة الوطن، أي المرجع الوطني الحامي للدستور وللسلم الأهلي، وليس فريقاً في الصراع السياسي، وهو على هذا الأساس يلعب دور الحكم في الصراع السياسي الداخلي في نظام سياسي ديموقراطي برلماني يقوم على مبدأ الفصل بين السلطات وتوازنها وتعاونها.
-نشر الوعي حول صلاحيات كل سلطة على حدة وأهمية معرفة المواطن بأحكام الدستور وعمل الحكومة ومجلس النواب والادارات العامة.
في الممارسات السياسية
-تحييد بيروت عن الصراعات الداخلية والخارجية.
-منع وجود السلاح غير القانوني في بيروت وتعزيز وجود القوى الأمنية فيها.
-العمل على وضع قانون انتخابي عصري وعادل وتمثيلي لإبراز النسيج الاجتماعي الواحد للعاصمة وإيصال أصوات أبناء المدينة واسترجاع صورة العاصمة، كمركز للحوار وحاضنة للوطن؛
-العمل على إنشاء كتلة نيابية ناشطة من نواب العاصمة لمتابعة المشاريع والحاجات الضرورية للعاصمة وسكانها، بغض النظر عن إختلاف المواقع السياسية والطائفية؛
-رعاية التنسيق بين نواب العاصمة لتذليل بعض العقبات الإدارية والبيروقراطية، وأحياناً السياسية أمام المشاريع الحيوية لبيروت؛
-نشر الوعي بين الشباب حول أهمية المشاركة في صنع القرار والعمل السياسي وتأدية واجبات المواطن ومراقبة أداء الممثلين السياسيين من نواب ووزراء وتطبيق مبدأ المحاسبة؛
في العمل الاجتماعي والبلدي
-إعطاء بلدية بيروت القدرة على الاقتراض والتعاطي مع المؤسّسات التمويلية الدولية على غرار الوزارات لاستقطاب التمويل المناسب لمشاريعها باستقلالية.
-توسيع صلاحية واستقلالية البلدية الإدارية والمالية، مثل القدرة على استثمار أموالها للحفاظ على قيمتها وتعظيمها للاستثمار في مشاريع كبرى.
-إعداد قانون انتخاب لأعضاء المجلس البلدي يحافظ على وحدة بيروت، وعلى العيش المشترك بين مكوناتها الطائفية.
-إزالة الأبنية المخالفة، وإجراء مسح على الأبنية القديمة ومعالجة تلك الآيلة للسقوط، والحفاظ على الأبنية التراثية.
-تأمين الإنماء المتوازن لجميع أحياء العاصمة والخدمات الأساسية للمواطن من رفع النفايات والإضاءة وإعادة إشارات السير والخدمات الآيلة إلى تسهيل الحياة اليومية؛
-لا يقتصر العمل البلدي الضخم على شؤون قانونية ومالية وإدارية، بل يشمل التواصل مع أهل المدينة في سبيل المشاركة في التنمية غرار ما تفعله بلديات عديدة في العالم. والعمل على إحياء لجان أحياء في سبيل تحسين نوعية الحياة في الأحياء، انسجاماً مع القوانين المرعية وتفسيراتها؛
-إشراك جيل الشباب من خلال اللجان الطلابية في مدارس وجامعات بيروت وتشجيعهم على القيام بمبادرات جماعية في كافة مناطق بيروت: لا شرقية ولا غربية بل بيروت واحدة موحّدة؛
-إعادة الحياة إلى وسط العاصمة وتنشيط التبادل والتواصل والحياة الثقافية لتعود بيروت “حاضنة الوطن”؛
-وضع معايير لتسمية شوارع بيروت، اذ بالإمكان كتابة تاريخ اللبنانيين من خلال أسماء الشوارع، فلا تكون بعد اليوم التسميات في سبيل الوجاهة والتعظيم وفقط للاستدلال. والحاجة إلى نشر ما كتب حول أسماء الشوارع في بيروت وتعميم مباراة بين التلامذة في كتابة تاريخ اللبنانيين من خلال أسماء الشوارع. ليشعر المواطن اللبناني حين يمرّ في الأوزاعي وشارع رياض الصلح وبشارة الخوري وعبد الوهاب الإنكليزي وغيره أنه يعيش التاريخ.

Exit mobile version