خاص الهديل:
بقلم: ناصر شرارة
هناك عدة أجوبة متداولة على هذا السؤال؛ غير أن أبرزهما إجابتان لافتتان؛ الأولى مصدرها أوساط مقربة من حزب الله، وهي ترى أن “احتمال حدوث حرب هو أمر بعيد ولكنه غير مستبعد”. ويرى هذا الرأي أنه “كلما تبين أن الأفق السياسي لحرب غزة أصبح بعيداً ومقفلاً، كلما زاد منسوب احتمالية اندلاع حرب شاملة على الجبهة الشمالية بين الحزب وإسرائيل”.
الإجابة اللافتة الثانية يمكن لحظها من خلال السياق التالي: لقد تلقى حزب الله ولبنان خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة التي هي عمر الحرب المستمرة في غزة، عدة تحذيرات مباشرة أوغير مباشرة من مسؤولين غريبين، وكلها لفتت النظر إلى أن احتمال أن تشن تل أبيب حرباً على لبنان، وارد جداً؛ وكان أبرز هؤلاء المسؤولين الذين نقلوا هذه التحذيرات، هو مدير المخابرات الفرنسية الخارحية برنار إيمييه الذي ترك منصبه مؤخراً، والذي كان زار بيروت الشهر الماضي، والتقى بمسؤولين لبنانيين بينهم مسؤول العلاقات الخارجية في حزب الله نواف الموسوي.. وقال إيمييه لمحدثيه اللبنانيين ما حرفيته التالي لقد كنت في إسرائيل ويهمني أن أنقل لكم صورة مقلقة للغاية، وهي أن المجتمع الإسرائيلي طرأ عليه تغير جوهري بفعل ما حدث يوم ٧ أكتوبر الذي شهد “عملية طوفان الأقصى” التي خلفت في يوم واحد آلاف القتلى والجرحى والأسرى الإسرائيليين في مستوطنات غلاف غزة، وشرح إيمييه طبيعة هذا التغير قائلاً أن إسرائيل باتت مستعدة لدفع أي كلفة بشرية مهما كانت مرتفعة، لقاء تحقيق هدف القضاء الكامل على المنظمات التي تقاتلها سواء في غزة أو في لبنان؛ ذلك أن المجتمع الإسرائيلي بات يعتبر نفسه من جهة أنه في حرب وجود؛ وأنه من جهة ثانية دفع القسط الأكبر من كلفتها البشرية في أول يوم جرت فيه..
والواقع أن الفكرة التي يلفت إليها إيمييه لم تكن فقط مجرد تحذير للحزب، بقدر ما كانت أيضاً قراءة عميقة لأمر جوهري وبنيوي تغير في العقيدة العسكرية الإسرائيلية من ناحية، وداخل التفكير العام للمجتمع الإسرائيلي من ناحية ثانية. فإسرائيل مند ابتداع كيانها في العام ١٩٤٨، واظبت على انتهاج عقيدة قتالية عسكرية تتجنب تنفيذ مهام وأهداف تؤدي إلى دفع كلفة بشرية عالية من القتلى والجرحى بين جنودها. وكان هذا المبدأ واضحاً لدى أي مراقب يتابع البنية المعنوية والنفسية للمجتمع الإسرائيلي الذي لم يخف أنه لا يتحمل تقديم تضحيات بشرية عالية من أبنائه مقابل الفوز في الحروب؛ وهذه الخاصية في الإجتماع الاسرائيلي هو الذي دفع كبار مخططي ومنظري نظريات الحرب في إسرائيل إلى صياغة استراتيجيات عسكرية تقوم على مبادئ تحرص على جعل الجيش الإسرائيلي يخوض حروباً سريعة تتم فيها المعارك فوق “أرض العدو”.. وبالمقابل لم يكن أيضاً خافياً أن العقلية العسكرية العربية بنت جزء هاماً من استراتيجية حربها مع إسرائيل على أساس الإفادة من نقطة الضعف هذه لدى المجتمع الإسرائيلي المتصفة “بعدم الاستعداد للتضحية”، حيث أن العسكرية العربية كانت تضع دائماً في حساباتها أثناء تخطيطها لكيفية الضغط على صانع القرار العسكري الإسرائيلي، مبدأ إلحاق أكبر الخسائر بين صفوف جنوده أو داخل جبهته الداخلية، وذلك بهدف إرغامه على وقف النار وعدم إكمال خططه العسكرية.
.. وخلاصة القول أن نتائج أحداث ما بات يعرف في إسرائيل بكارثة يوم “فرحة التوراة في ٧ أكتوبر”، أحدثت تغييراً جوهرياً داخل إسرائيل، مفاده أن المجتمع الإسرائيلي تولدت لديه قناعة تقول أنه بدأ الحرب هذه المرة بدفع الثمن البشري المرتفع في أول ساعة من استعارها؛ ما أدى إلى “تحرره” (أي المجتمع الإسرائيلي) من عقدة الخوف من أن يؤدي استمراره فيها إلى دفعه كلفة بشرية عالية.
ويلاحظ في ذات هذا السياق أن صناع القرار في إسرائيل، وعلى رأسهم بنيامين نتنياهو، بدأوا في بياناتهم اليومية الخاصة بمجريات الحرب، يركزون بجرأة ودون خوف من رد فعل المجتمع الإسرائيلي، على فكرة أن إلحكومة الإسرائيلية ستمضي بالحرب حتى نهاية تحقيق هدفها، وذلك رغم اعترافها المسبق بأن قرار الاستمرار بالحرب سيكلف الجيش الإسرائيلي خسائر كبيرة وموجعة..
بإختصار لم يعد الثمن الكبير من القتلى الإسرائيليين يمثل حاجزاً يعيق صناع القرار في إسرائيل عن الاستمرار في الحرب؛ وأيضاً لم يعد خوف المجتمع الإسرائيلي من دفع ثمن كبير لهذه الحرب، يمثل عامل ردع له، يثنيه عن تأييد الإستمرار بها؛ والسبب في ذلك يقع في أن المجتمع الإسرائيلي يعتبر أنه دفع الكلفة البشرية العالية في أول الحرب وفي ساعاتها الأولى، ولذلك “لم يعد الحذر يبعد القدر” حسب المقولة المشهودة.
إن هذا العامل الذي وصفه إيمييه بأنه أحدث تطوراً جوهرياً خطراً ومقلقاً داخل المجتمع الإسرائيلي وداخل بيئة صناع قرار الحرب في إسرائيل، هو الذي يرجح ليس فقط أن تستمر الحرب الإسرائيلية المجرمة على غزة للنهاية؛ بل أن تستكمل إسرائيل هذه الحرب بعدوان مفتوح وواسع على لبنان، وذلك فور انتهاء مراحل الحرب البرية الإسرائيلية في غزة..
وترجح بعض المعلومات أن تكون إسرائيل اختارت توقيت “منتصف شهر شباط القادم” كموعد لبدء حربها العدوانية الشاملة على لبنان؛ فيما من غير المستبعد وفقاً لهذه المعلومات، أن يقوم نتنياهو ومعه كابينت الحرب، في الفترة التي تفصلنا عن منتصف شباط بتنفيذ عمليات أمنية استخباراتية ضد أهداف في لبنان، تكون على وزن هدف الشيخ صالح العاروري أو ضد مواقع حساسة.
إن الفكرة الأساسية التي يحملها التحليل المشار إليه أعلاه للواقع الإسرائيلي في الحرب الجارية حالياً، تتمثل في أنه أولاً يجب النظر بجدية إلى كلام نتنياهو بأنه مستمر بالحرب حتى العام ٢٠٢٥؛ وأنه ثانياً يجب عدم الاستمرار في الاعتقاد بأن سبب استمرار إسرائيل بالحرب، هو حسابات نتنياهو الشخصية؛ بل يجب النظر إلى أن قرار الاستمرار بجريمة الحرب الإسرائيلية ضد غزة ولاحقاً أو بالتوازي ضد لبنان، سببه الرئيس هو ما أسماه إيمييه حدوث “التغيير الجوهري” في إسرائيل وفي “عقيدتها العسكرية”!!