خاص الهديل
بقلم: ناصر شرارة
حدث أمس انقلاب في مسار حرب غزة، نتيجة إرسال حماس ردها المكتوب على إطار باريس حول تبادل الأسرى إلى الوسيط القطري الذي رفعه بدوره إلى كل من إسرائيل وإدارة بايدن. وفجأة لم تعد أخبار معارك خانيونس تتصدر أخبار قنوات التفلزة الإسرائيلية والعالمية؛ وبدلاً منها تصدرت الأخبار العالمية عوامل متابعة رد حماس على ورقة إطار باريس؛ وتعقيبات البيت الأبيض وإسرائيل عليه.
باختصار، فإن حدث قيام حماس ليلة أمس بالرد على مقترح “صفقة الهدنة وتبادل الأسرى”، أشار إلى أمر هام، وهو أن قطار حرب غزة المجنون بدأ يقترب من التوقف عند محطة بدء تطبيقات “مرحلة اليوم التالي لوقف الحرب”.. وتعتبر هذه المرحلة هي الأهم بالنسبة لجميع أطراف حرب غزة المباشرين وغير المباشرين: فبالنسبة لإدارة بايدن، فإن اليوم التالي لوقف حرب غزة هو أول محطة لانطلاق رحلة قطار حل الدولتين (!!) الذي سيعلن أنه في الطريق لبلوغ محطة حل الدولتين؛ لا بد لدول المنطقة العربية والإسلامية أن تتوقف عند عدة محطات استراتيجية؛ أبرزها محطة إعادة إنتاج السلطتين الفلسطينية؛ ومن ثم محطة التطبيع بين السعودية وإسرائيل، وبعدها محطة تكيف المنطقة مع متطلبات تنفيذ مشروع الممر الهندي الخاص بواشنطن.
.. أما بالنسبة لإسرائيل فإن الوصول لمحطة اليوم التالي لتوقف حرب غزة يعني أن مرحلة ٧ أكتوبر العسكرية انتهت، لتبدأ بعدها مرحلة تداعياتها السياسية الانقلابية داخل إسرائيل، وتأثيراتها الجيوسياسية العميقة على الدور الجديد لإسرائيل في المنطقة، وعلى الاستجابة للتحديات التي ستواجه قدرتها على التكيف مع تحديات دفع الثمن السياسي والديموغرافي المطلوب منها دولياً وإقليمياً ووجودياً، للشعب الفلسطيني.
.. وبالنسبة للفلسطينيين، فإن وصولهم إلى محطة اليوم التالي لحرب غزة؛ يعني أنهم أصبحوا وجهاً لوجه أمام امتحان إثبات قدرتهم على تجاوز تأثيرات النكبة الثانية الهائلة عليهم، وتعني أيضاً أنهم وصلوا للحظة طالما تجاهلوها، تتعلق بتحقيق مصالحتهم الوطنية ووحدتهم الداخلية؛ وتعني تالياً أنهم بمواجهة السؤال الكبير وهو كيفية جعل قطار حرب غزة يتوقف عند محطة النتائج الإستراتيجية لمعاني يوم ٧ أكتوبر، وليس عند محطة نتائج رد الفعل الإسرائيلي التدميري لغزة المستمر منذ نحو أربعة شهور..
إن أهمية مرحلة اليوم التالي لتوقف الحرب تنطلق من كون هذه الحرب انتهت على نتيجة “الكارثة والبطولة” وما بين هاتين العبارتين من تناقض يمجد التضحية: “كارثة على يقين الأمن الإسرائيلي” وعلى “واقع الشعب الفلسطيني في غزة”؛ وبطولة للشعب الفلسطيني ومقاومته ولأهالي الأسرى الفلسطينيين وأيضاً لأهالي الأسرى الإسرائيليين وأبنائهم القتلى!!
يؤدي كل هذا التناقض والتداخل بين الرمزيات، إلى خدمة حقيقة واحدة واضحة وهي أن الحرب لم تنته على نتيجة “زرع علم النصر الحاسم والواضح” لصالح أحد طرفيها؛ رغم أن كل طرف منهما، سيمارس رياضة الإدعاء بأنه انتصر، أو أقله بأنه نجح في منع عدوه من الانتصار..
ويسلط هذا الأمر الضوء على واحدة من أهم الإشكاليات الإستراتيجية التي طبعت المنطقة خلال العقدين الأخيرين، ومفادها أن دولها الكبيرة والصغيرة، وأحزابها التاريخية والحديثة، فقدت جميعها “المعيار الواضح” الذي بموجبه تستطيع أن تؤكد لنفسها ولجمهورها أنها فعلياً حققت “النصر الجلي” على خصمها أو عدوها.. أو متى يمكنها أن تذيع بلاغ “نصر الجلي” على الطرف الآخر؟؟.
والواقع أن سورية واجهت ولا تزال تواجه هذه المشكلة، حيث أن حرب النظام فيها على المعارضة، انتهت عسكرياً، ولكن لم تنته نتائحها السياسية؛ وبالمحصلة لم تنته أزمة نتائج الحرب السورية لا داخل سورية ولا خارجها؛ وكذا الأمر بالنسبة لليبيا التي صمتت فيها القذائف، ولكن لم تعد إليها لا وحدتها ولا دولتها ولا استقرارها؛ الخ.. وكل هذه الأمثلة تدلل على أن “عنصر الحسم” بوجه أزمات المنطقة بات سلعة مفقودة وليست فقط نادرة، وأن المتوفر لدى كل دولها وأحزابها، هو فقط خيار الإقامة إلى جانب استمرار الأزمات والمشاكل؛ والمكابرة المريضة والشعبوية لتغطية العجز؛ بدل الاعتراف الواقعي والشجاع بعدم وجود قدرة لدى أي طرف في المنطقة والعالم، على حسم الحروب أو انتاج تسويات للأزمات وخاصة في الشرق الأوسط؛ وبأن الخيار الوحيد المتوفر لهذه الدول والكيانات هو التعايش مع عدم القدرة على فرض “تسويات” أو “إرادات سياسية”.
وتأتي حرب غزة بكل نتائحها المتوقعة، وبكل وقائعها الجارية، لتؤكد تجذر إشكالية عدم قدرة أي طرف في المنطقة أو من خارجها على “الحسم” و”زرع علم النصر السياسي أو العسكري الجلي” تجاه أية مشكلة أو صراع يجري فيها، وذلك بغض النظر عن ضخامة هذه المشكلة أو صغرها.
.. وعليه فإن اليوم التالي للحرب في غزة، لن يكون يوماً جديداً تشرق فيه الشمس على إعلان “نهاية المشكلة والكارثة” وبداية “الحل والسلام؛ بل سيكون فعلياً هو يوم عودة كل الأطراف المشاركة في حرب غزة إلى مربع “اليوم السابق” ليوم نهاية الحرب؛ أي أن “اليوم التالي لحرب غزة” سيكون بالنسبة للخطاب الذي سيعتمد من قبل حماس، هو “اليوم الأول التالي” لبدء أمجاد عملية طوفان الأقصى في ٧ أكتوبر؛ وسيكون بالنسبة للخطاب الذي ستعتمده إسرائيل، هو اليوم التالي الانتقامي لحرب الأشهر التدمرية الأربعة ضد البشر والحجر في غزة؛ أما بالنسبة لواشنطن فإنه سيكون كالعادة هو اليوم الأول في “رحلة الكذب الأميركي الطويلة” على طريق التملص من وعد حل الدولتين!!