خاص الهديل
بقلم: ناصر شرارة
داخل عمليات المواجهات الجارية على الجبهة الشمالية؛ تمعن إسرائيل بتوجيه حملة اغتيالات ممنهجة ضد نشطاء حزب الله العسكريين الأساسيين؛ وبالتزامن مع إقدام إسرائيل يوم أمس على محاولة اغتيال ناشطين من حزب الله في مدينة النبطية – أي بعيداً عن ميدان ال ٥ كلم المتوافق عليه – تحدثت معلومات عن أن إسرائيل قد تتجه في المدى المنظور لتوسيع “الميدان الأمني” ذي الصلة بالإغتيالات، بحيث تقدم على إغتيال قادة من حماس والجهاد الإسلامي داخل المخيمات الفلسطينية في لبنان؛ وذلك بالتزامن مع استكمال عمليات اغتيالها لقادة حزب الله العسكريين.
والواقع أن حملة الإغتيالات التي تنفذها إسرائيل فوق الساحة اللبنانية، باتت ترقى لمستوى أنها “حرب قائمة بذاتها”، داخل ما يجري من مواجهات في الجنوب اللبناني.
ما هو الهدف الإستراتيجي الإسرائيلي وراء هذه الاغتيالات؟..
منذ اللحظات الأولى لولادة العقيدة العسكرية الصهيونية، احتل “مبدأ الاغتيال والتصفيات بوسائل استخباراتية وأمنية” موقعاً وأساسياً ومهماً داخل هذه العقيدة؛ وكان اللافت بهذا المبدأ أنه من حيث خليفاته وأهدافه لا يشبه مبدأ الإغتيالات كما هو ورد في أية عقيدة عسكرية لأي دولة أخرى في العالم.. وهذا يؤكد أن “عملية الإغتيال” بالنسبة لإسرائيل، هي “مهمة ايديولوجية” وليست فقط مهمة أمنية؛ وهي أيضاً “مهمة ملقاة على عاتق جيل” وليس فقط مجرد “مهمة ينفذها فريق عمل إستخباراتي”(!!)؛ وأكثر من ذلك فهي مهمة تتعدى كونها “رد فعل أمني مادي إجرائي على ظرف طارئ”، أو أنها مجرد “تحييد أمني لهدف يمثل خطراً قائماً”؛ بل هي فعل انتقامي مستديم ومتوارث من جيل لجيل.. وكل هذه المعاني الواردة أعلاه، يجسدها عملياً مبدأ موجود ومعتمد داخل العقيدة الأمنية الإسرائيلية، إسمه “مهمة ميونيخ”؛ وهو مصطلح يرمز لعملية الفدائيين الفلسطينيين التي حصلت في سبعينات القرن الماضي في ميونيخ ضد فريق رياضي إسرائيلي، وأدت آنذاك لمقتل عدد منهم.. حينها لم يقتصر الرد الإسرائيلي على استهداف الجهة السياسية والعسكرية التي خططت ونفذت هذه العملية؛ بل صاغت إسرائيل كرد فعل عليها، مبدأ أسمته “مهمة جيل ميونيخ”؛ وفحواه أنه يجب على كل الجيل الأمني الإسرائيلي الذي عايش عملية ميونيخ، أن ينتقم للرياضيين الإسرائيليين الذين قتلوا في ميونيخ، وذلك وفق روحية أن يتسم انتقامهم بأنه بعيد المدى زمنياً؛ بحيث يستمر نحو عشر سنوات وأكثر، وتكون حصيلته قتل آلاف الفلسطينيين المسؤولين بهذه النسبة أو تلك عن عملية ميونيخ..
وخلال الشهر الثاني من حرب غزة سرب الإعلام الإسرائيلي عن مسؤول الشاباك قوله في اجتماع أمني مغلق، أن الانتقام من عملية طوفان الأقصى يجب أن تطبقه إسرائيل بمفهوم “مبدأ ميونيخ”؛ أي أن يتوارث الإسرائيليون جيل بعد جيل مهمة الاقتصاص من مخططي هذه العملية، حتى لو دام تنفيذ عملية الاقتصاص عقود وشملت قتل آلاف الفلسطينيين المتهمين بأن لهم دور صغير أو كبير فيها…
.. ويستفاد من كل ما تقدم أن مصطلح “مهمة ميونيخ” الذي طُبق سابقاً، والجاري تطبيقه اليوم على حرب غزة وعلى مواجهات جبهة الشمال؛ له معنى عملي واحد، وهو “توريث المهمة الأمنية ذاتها من جيل لجيل”؛ وتحويل “المؤسسة الأمنية الإسرائيلية” إلى “قبيلة متطورة تكنولوجياً”؛ وأيضاً “جعل العمل الإستخباراتي الإسرائيلي له مفهوم “أمني قبلي” يحتم على الأجيال الإسرائيلية الجديدة تبنيه، ويحثهم على “أخذ الثأر من العدو – وهو هنا العربي والفلسطيني خاصة – بمفعول رجعي!!
وخلال حرب غزة الحالية تم أكثر من مرة، تسريب كلام منسوب لقادة أمنيين يتحدثون عن ضرورة ملاحقة قادة حماس ونشطائها وفق تطبيقات “مبدأ ميونيخ”؛ أي جعل الإنتقام من حماس ومن عملية طوفان الأقصى، بمثابة “مهمة جيل إسرائيلي كامل”؛ وجعل مدتها الزمنية مفتوحة تبدأ مع كابينيت الحرب الحالي ومع رؤساء وعناصر المؤسسات الأمنية الحاليين، وتستمر مع الخلف الذي سيحل في مواقعهم..
وما لا يتم التنبه له إعلامياً وسياسياً في هذا المجال، هو أن تطبيقات “مبدأ ميونيخ”، هو الذي يوجه السعي الإسرائيلي داخل مواجهات الجبهة الشمالية، لتنفيذ عمليات اغتيال مكثفة للمسؤولين من حماس يقيمون في لبنان؛ بالإضافة للتركيز على اغتيال مسؤولين ميدانيين من حزب الله.
وهذا الجانب من حرب إسرائيل، يتعدى كونه مجرد “عمليات تحييد لأهداف خطرة عسكرياً وأمنياً”؛ بل هو سياق عملياتي يصب في خدمة هدف توريث الجيل الإسرائيلي الجديد مهمة الإنتقام من مسؤولي حزب الله ليس فقط بسبب مسؤوليتهم عن المواجهات الحالية مع الجيش الإسرائيلي؛ بل بالأساس بسبب تاريخه الصراعي مع إسرائيل الذي بلغ ذروته خلال حدثي تحرير العام ٢٠٠٠ وحرب العام ٢٠٠٦؛ وأيضاً الانتقام من حماس بسبب مسؤوليتها عن طوفان الأقصى والحروب الإسرائيلية السابقة معها.
ومن خلال تتبع تطبيقات إسرائيل “لمبدأ ميونيخ” داخل المواجهات الراهنة مع حزب الله؛ يتضح بجلاء أن الجيش الإسرائيلي ينفذ داخلها، وفوق سقفها، حرب اغتيالات وتصفيات أمنية شاملة، وليست محدودة أو مقيدة بقواعد الاشتباك، وذلك ضد قيادات حماس في لبنان وضد قادة حزب الله العسكريين الأساسيين. وتجري كل هذه الحرب بهدف توجيه “الجيل الإسرائيلي الجديد” لتبني ثقافة “مبدأ ميونيخ” تجاه صراعه مع حزب الله وحماس؛ وهذه ثقافة تدعوه للقيام بكامل قسطه من المهمة التي تتعلق بملاحقة مسؤولي حماس وحزب الله حتى قتلهم جميعاً، حتى لو استغرقت هذه المهمة غير المحصورة بفترة الحرب الراهنة، فترة جيل كامل..
إن مبدأ الإغتيالات كما تفهمه وتمارسه إسرائيل، هو استراتيجية مستقلة عن أية حرب تقع، رغم أنه يتم التذرع بنشوب حروب كي يتم بين ثناياها تنفيذ عمليات اغتيال؛ غير أن الإغتيالات كما تفهمها إسرائيل، هي عملية قتل دائمة بكاتم للصوت السياسي والإعلامي والإجرامي “لجيل كامل من نشطاء العدو” بتهمة أن على يديه دم إسرائيلي أو أنه شارك أو تواطأ بهذا الجرم.
وعلى هذا، فإن الهدف الأساس لمبدأ ميونيخ، هو تذكير الأجيال الإسرائيلية الجديدة بضرورة الانتقام من أحداث سابقة قتل فيها يهود؛ وليذكرهم أيضاً بأن عليهم “قتل جيل كامل من العدو”!!.