خاص الهديل
بقلم: ناصر شرارة
الآن فقط، وبعد فوات الوقت الثمين، سوف يتأكد مايسترو الحياة السياسية الإسرائيلية بلا منازع بنيامين نتنياهو، أن ذكاءه الفطن لم يتنبه إلى “أخطر عدو” قبع قريباً منه، وتسبب بانهيار امبراطوريته السياسية، وهو يحيى السنوار..
جاء مدرس اللغة العربية إلى المشهد السياسي من مخيم خانيونس، وقبع فترة طويلة في السجون الإسرائيلية، تخصص خلالها بالوضع الداخلي الإسرائيلي.
.. لأول وهلة يخطر لبال أي مراقب عقد مقارنة بين يحيى السنوار “مقض مضجع إسرائيل وشاغل اهتمام الناس والعالم” وبين “الختيار” ياسر عرفات الذي خرج من “خيمة نكبة ال٤٨ الفلسطينية” وبنى للفلسطينيين بعد ٥٠ سنة من النضال، “خيمة سلطة أوسلو الوطنية” في رام الله “فوق التراب الوطني الفلسطيني المستقل” حسب عبارته المحببة لعقله وقلبه.
ليس سهلاً اكتشاف وجه شبه تطابقي بين القائدين الفلسطينيين اللذين تمتعا بالشهرة الأكبر من بين جميع قادة المقاومة الفلسطينية الوفيري العدد.. فعرفات تقع ميزته بأنه “قاد المجتمع الفلسطيني”، بأكثر مما هو قاد “الشعب الفلسطيني”.. كان عرفات “ثورياً تقليدياً” يقرأ بكتاب المنهاج الاجتماعي الفلسطيني المعتمد، ولم يثقف ثوريته كجورج حبش أو نايف حواتمة على كتب لحظة تلك الزمن التي صاغها البلاشفة والقوميون العرب التي نهلوا من صياغات الثورة الفرنسية التحريرية..
.. وفي دربه الصعب نحو رام الله، والذي استغرق أكثر من نصف قرن، تعامل عرفات مع ذاته على أنه “شيخ ربع” تاهت عشيرته في شتات لا أفق له؛ وصارت كل مهمته أن يقودها برفقة “عصى بصير” إلى طريق العودة.. أما السنوار فإن صورته تقترب أكثر من كونه “قائداً للأمة” التي تهدر كموج بحر تبدأ حدوده عند ضفاف غزة ولا تنتهي في عمق جوامع إندونيسيا..
.. كل ملامحه توحي بأنه يعتمد على طاقة فعل كامنة وظاهرة، قدت بلا شك من تاريخ غزة – جبل النار؛ ولكنها قطعاً هي بمفهوم السنوار، أكبر من أن تحدد ماهيتها حدود وطنية. فإسلاميو الثورة الفلسطينية، والسنوار متهم؛ يثقون بأن أمضى أسلحتهم هو “العمق الفلسطيني الاسلامي المؤيد من العرب”؛ وليس “العمق العربي المؤيد من البعد الإسلامي”؛ وربما قناعتهم هذه، هي نقطة ضعفهم عالمياً وعربياً كما يظن البعض؛ أو كانت هي نقطة قوتهم الظاهرة وسرها الكامن، كما يظن البعض الآخر.
غولدا مائير التي قال عنها بن غوريون “أنها الرجل الوحيد في حكومتي”؛ تنبهت على عكس نتنياهو؛ لخطورة أن يتطور اشتباك إسرائيل مع الفلسطينيين وحتى مع العرب، باتجاه أن يصبح اشتباكاً بينها وبين “الأمة”؛ وهو مصطلح (أي الأمة)، لا يؤشر فقط إلى عالم واسع الأرجاء مكون من نحو ملياري نسمة حول العالم، بل يؤشر أيضاً إلى طاقة “تاريخ” لا ينقطع، و”وجدان جمعي” يقوده تراث كبير من “تمجيد الجهاد” و”الذود عن المقدسات” و”الشهادة أو النصر” في ساحات “الدفاع عن العرض والأرض”.
تروي غولدا أنه ليلة اليوم الأول على احتلال الإسرائيليين للمسجد الأقصى، لم يغمض لها جفن، حيث أرقها سؤال مرعب وهو كيف سيكون حجم غضب المسلمين حول العالم، حينما يستفيقون في الصباح على خبر أن ثالث الحرمين لديهم (المسجد الأقصى)، سقط بيد اليهود؟!.
ضحك موشي دايان كثيراً في صباح يومه الأول بعد احتلال المسجد الأقصى، وقال لغولدا مائير أن “عربة الحاضر يجرها جنرال وليس التاريخ”. وما فعله السنوار في واحدة من أبعاد عملية طوفان الأقصى، هو أنه صحيح داخل الوعي الإسرائيلي عبارة دايان عن الأقصى والجنرال المتغطرس؛ وأكد للوعي الإسرائيلي أن أرق مائير في ليلة ١٣ حزيران عام ١٩٦٧ وجدت مستمسكاً مادياً على صدقها، في صباح يوم ٧ أكتوبر عام ٢٠٢٣.
.. باختصار ؛ بعد ٥٦ عاماً من “ليلة أرق مائير” أكد لها السنوار للمجتمع الإسرائيلي أن سؤالها كان في محله، وأنها فعلاً هي “الرجل الوحيد” في حكومة مؤسس “دولة إسرائيل” بن غوريون، التي لم تصدق أن احتلال المسجد الأقصى لن يؤدي يوماً ما إلى “طوفان ألاقصى” الغاضب.
لا يعني ما تقدم بالضرورة أن كل خلفيات مشروع السنوار هو قيادة حرب دينية ضد إسرائيل؛ ولكن ما تقدم يعني بالتأكيد أن السنوار جاء إلى مهمته “من تاريخ”، يمثل بالنسبة إليه “ايديوجيا وجود”.
تعلم السنوار اللغة العربية في الجامعة الإسلامية للشريعة في غزة؛ ودرسها لفترة.. بينما تعلم ياسر عرفات الهندسة في جامعة القاهرة ولم يزاولها فعلياً.. وفيما الأخير وضعه قدره بمواجهة فوق ساحة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، مع مرحلتين أساسيتين؛ الأولى كانت مع غولدا مائير وموشي دايان اللذين بحثا عنه طويلاً خلال بداياته لقتله، وذلك قبل أن يشتد عوده؛ اما تجربته الثانية، وهي الأعمق، فكانت مع إسحق رابين الذي قتلته تجربته لبناء قناعة داخل المجتمع الإسرائيلي بإنشاء “سلم ما” مع الفلسطيني.. وللمفارقة الموحية، أن قتلة رابين هم ذاتهم، عادوا ودسوا السم لعرفات في عروقه. وهؤلاء هم ذاتهم اليوم أيضاً الذين يخشى نتنياهو من غدر خنجرهم في حال اضطر للموافقة على هدنة بايدن الطويلة.
وكل هذه الوقائع، أوصلت للسنوار الذي تعمق تثقفاً في سجنه “بالمسألة اليهودية” منذ كانت حركة مضطهدة (بفتح الهاء) في أوروبا لغاية أن أصبحت حركة صهيونية مضطهدة (بكسر الهاء) في فلسطين، رسالة وقناعة تقول أن اليمين العنصري في إسرائيل، ليس “غيمة صيف” عابرة؛ ولا هو حسب تبسيط البعض له، مجرد “مجرد نوبة اضطراب عصبية” لبن غفير أو سيموريتش؛ بل هو كمشروع لاغتيال الوجود الفلسطيني، يجسد حقيقة عمرها داخل مجتمع الاستيطان اليهودي ماية عام، كان افتتحها زئيف جابوتنسكي بمقالته الشهيرة عن “الجدار الفولاذي” عام ١٩٢٣، وهي منذ انقلاب حزب “حيروت” الأبيض عام ١٩٧٧ بقيادة مناحيم بيغن، تحتل فعلياً “دولة إسرائيل” التي تحتل بدورها فلسطين!!.. وعليه؛ فإنه من موقع تعمقه بفهم هذا الواقع الإسرائيلي بكل أبعاده؛ إدراك السنوار حقيقة ما كان يمكن لعرفات أن يدركها في ذاك الوقت، ومفادها أن سلم الفلسطيني مع إسرائيل (أوسلو) أو إلى جانب دولة إسرائيل (حل الدولتين)، هو مغامرة وجودية تشبه الدخول إلى حجر العقارب؛ ونتائجها على من يؤمن بها من القادة الفلسطينيين، ستكون ما حصل لعرفات المسموم؛ وعلى الشعب الفلسطيني، ستكون أفدح من نتائج مغامرة خوض حرب مع إسرائيل.