الهديل

رئيس ملتقى بيروت: نفتقد وجودك وتنقّلك بين عواصم القرار، لوقف حرب الإبادة ضد غزة، وإعادة الهدوء إلى جنوب لبنان

نفتقد وجودك وتنقّلك بين عواصم القرار، لوقف حرب الإبادة ضد غزة، وإعادة الهدوء إلى جنوب لبنان.

الدكتور فوزي زيدان

نستذكر اليوم، كما في كل يوم، الرئيس الشهيد رفيق الحريري الذي أودى التفجير الزلزال بحياته وبمشروعه بإقامة دولة المؤسّسات القوية والعادلة على كامل التراب الوطني، ما أدى إلى تقويض دعائم الدولة، وتعطيل مؤسّساتها الدستورية، وإضعاف قرارها الوطني، وتدخل الدول الأجنبية في شؤونها، وإلى انقسام وطني حاد، وانهيار اقتصادي، وتدهور أمني، وتهديد وحدة لبنان وشعبه. ولم تقف تداعيات الزلزال وارتداداته على الساحة اللبنانية، بل تعدتها إلى المنطقة العربية والعالم، لما كان يتمتع به الرئيس الشهيد من زعامة وطنية كبيرة، ومكانة عربية نافذة، وعلاقات دولية متينة.
كان لبنان، عندما تولى الرئيس الشهيد رفيق الحريري السلطة التنفيذية فيه عام 1992، دولة مفككة ومدمرة بعيدة عن الاهتمام العربي والدولي، فأعاده، بفضل علاقاته الواسعة، إلى واجهة الاهتمامات العالمية، حتى أصبح يحتل مركزاً مالياً وسياحياً وخدماتياً متقدماً في المنطقة العربية. وعمل على تعزيز العيش المشترك وترسيخ الوحدة الوطنية بين اللبنانيين، ليكون ولاؤهم لوطنهم أولاً، من دون أن يتخلوا عن معتقداتهم القومية وروابطهم المتينة مع عالمهم العربي وانفتاحهم على العالم. واستثمر علاقاته القوية بالدول العربية والأجنبية النافذة في خدمة وطنه، حتى أصبح اسم لبنان مرادفاً لاسمه.
كان الرئيس رفيق الحريري رمزاً وطنياً كبيراً ورجل دولة من الطراز الرفيع، وعنواناً للاعتدال والوسطية، وصاحب شخصية قيادية قوية، وخطاب هادف بعيد عن الإثارة والتحريض. كان يتمتع بذكاء خارق ودينامية متواصلة ومرونة كبيرة وبالٍ طويل ومعرفة واسعة بأمور الدولة ودراية دقيقة بخصائص المجتمع اللبناني. كان يرفض التحدي ويبحث دائماً عن مخارج للقضايا الشائكة باستعمال الحكمة وتدوير الزوايا والجمع بين المتناقضات. .
تعاطى الرئيس رفيق الحريري العمل الوطني باعتدال وانفتاح من دون تحيّز طائفي أو تمييز مذهبي، وكان يرفض توصيفه بالزعيم السنّي لأن في ذلك تحجيم لموقعه الوطني والعربي. وسعى إلى إقامة الدولة القوية القادرة والعادلة المرتكزة على المؤسّسات الفاعلة، واهتم بالتنمية المستدامة وتعزيز شبكات الأمان الاجتماعية وترسيخ الوحدة الوطنية وتطوير الاقتصاد وتنميته. واعتمد في مسيرته على حماسه واندفاعه وخبرته والكفاءات اللبنانية وإمكاناتها الفكرية والإدارية والاقتصادية الإبداعية، وعلى علاقاته الواسعة مع الدول العربية والأجنية المؤثّرة.
كان متيّماً بحب وطنه، هائماً في عشق بيروت التي كانت تسكن قلبه ووجدانه، ويفضلها على كل عواصم العالم ومدنه على رغم صخبها وفوضويتها. وشاء القدر أن يروي ترابها بدمائه الطاهرة وأن يورى جثمانه في ثراها. وأعاد بناء وسطها التجاري على نمط يجمع بين القِدم والحداثة، وأقام فيها مستشفى جامعياً مركزياً مجهزاً بأحدث المعدات، وشبكة مدارس رسمية متخطياً في بنائها القرارات الوزارية ورُخَص البناء، ومطاراً حديثاً ومدينة رياضية مميزة. ومع الأسف تعاني اليوم معظم هذه المشروعات إهمالاً فاضحاً، فالوسط التجاري خاوٍ ومزنّر بالمكعبات الإسمنتية، والمستشفى الجامعي على شفير الانهيار، والمدينة الرياضية هيكل فارغ، والمطار ومحيطه تحت رحمة الميليشيات، ونحمد الله أن السرايا الحكومية ما زالت بخير.
حاول الرئيس الشهيد تطبيق “اتفاق الطائف”، الذي كان أحد واضعيه الرئيسين، بالحوار الهادىء والمتواصل مع سلطة الوصاية السورية، فكانت تقابل محاولاته بالعداء والكراهية، ووضع العراقيل أمام مشاريعه الاقتصادية والمالية، وتأليب الرأي العام ضده باتهامه من خلال أبواقها في لبنان بالخيانة الوطنية والعداء للعروبة والتنكر لقضية العرب المركزية. الأمر الذي دفعه إلى قرار مواجهتها في الانتخابات النيابية التي كانت مقررة في ربيع عام الاغتيال المشؤوم، حيث كان ينوي لدى عودته إلى السلطة الطلب من دمشق رسمياً تنفيذ “اتفاق الطائف” وسحب قواتها العسكرية والأمنية من لبنان. ولكن بدلاً من أن يتم الانسحاب بسلام، تم بدمائه الطاهرة التي روت تراب بيروت.
تسعة عشرة سنة مضت وما زالت روح الرئيس الشهيد رفيق الحريري الطاهرة ترفرف في سماء الوطن، وذكراه الطيبة تَرِد على كل لسان. ونفتقد في هذه الظروف الصعبة التي تمرّ فيها منطقتنا العربية حيث يرتكب العدو الصهيوني المجازر والتدمير الهائل في غزة، بمباركة ودعم من العالم الذي يرفع زوراً شعار الدفاع عن الحرية وحق الشعوب بتحرير أراضيها المحتلة، كما تشهد الحدود اللبنانية مع فلسطين المحتلة تبادل النار بين مقاتلي حزب الله والقوات الإسرائيلية، بذريعة مساندة غزة، وربما يكون الأمر غير ذلك، نتج عنه استشهاد مقاتلين ومواطنين أبرياء وتهجير آلاف الجنوبيين من بلداتهم وقراهم المتاخمة للحدود، وجمود الحركة السياسية والاقتصادية وشلّ الحركة السياحية التي كانت بدأت تشهد في الأشهر الأخيرة تحسّناً ملحوظاً قارب المستوى التي كانت عليه في سنوات الرخاء، وتعدّت الاعتداءات الإسرائيلية الشريط الحدودي إلى العمق اللبناني، نفتقد وجوده وتنقّله بين عواصم القرار لوقف حرب الإبادة في غزة، وإعادة الهدوء إلى جنوب لبنان.
أخيرا، أننا لن نتخلى عن المبادىء التي آمن بها الرئيس الشهيد ويؤمن بها كل لبناني حرّ، وهي مبادىء المحبة والاعتدال وترسيخ العيش الواحد والتمسّك بوحدة لبنان وسيادته وقراره الحر، وببسط سلطة الشرعية على كل الأراضي اللبنانية وبأن يكون السلاح في أيدي القوى الأمنية والعسكرية الرسمية فقط، وأننا نعمل، على تحقيق هذه المبادىء والأهداف مع الصادقين المخلصين للبنان، الذين يتمتعون بالعلم والكفاءة والنزاهة، ويملكون مشروعاً اقتصادياً ومالياً إنقاذياً، ويضعون مصلحة لبنان العليا فوق كل اعتبار.

رئيس ملتقى بيروت

Exit mobile version