خاص الهديل
بقلم: ناصر شرارة
حملت الأحداث في نهايات العام الماضي، للرئيس الفرنسي ماكرون أخباراً سيئة من أفريقيا التي شهدت معظم دولها حملات طرد متتالية للنفوذ والمصالح الفرنسية من آخر مستعمراتها القديمة. وقبل ذلك كان قطار المصالح الفرنسية بدأ منذ مطالع الألفية الثانية الراهنة، يخرج من دون عودة، من بلدان كان له فيها محطات مصلحية هامة، كالعراق وسورية وليبيا، الخ..
وفي جميع هذه البلدان، كان يمكن لباريس أن تلاحظ أن الطرف الأساس الذي استفاد من خروج الفرنسي منها هو الولايات المتحدة الأميركية.
وفي هذه اللحظة، وبعد كل ما حصل لفرنسا في مستعمراتها القديمة وفي الدول التي كان لها فيها مصالح هامة، لم يعد يوجد في أرشيف وزارة الخارجية الفرنسية، وفوق طاولة القرار الرئاسي في الإليزيه، سوى ملف خارجي واحد يوجد لباريس دالة عليه، ومصالح فيه، وهو ملف لبنان.
وعليه، فإن ماكرون يولي أهمية بالغة العناية للحفاظ على وجود ومصالح ونفوذ باريس في لبنان؛ ذلك أن فرنسا التي لها معنى أنها العاصمة السياسية لأوروبا، لم تعد تتحمل توجيه ضربة لها في بلد الأرز، ليس لأن ذلك سيعني فقط أنها خسرت في لبنان، بل لأن ذلك سيعني أيضاً وأساساً أن فرنسا خرجت من آخر مكان لها في المشرق العربي؛ وخرجت من آخر مكان لها فوق الخارطة العربية؛ وخرجت من آخر بلد كان ضمن مستعمراتها القديمة.
والواقع أن هذا المعنى الذي بات يمثله لبنان لباريس، ولّد عند السياسة الخارجية الفرنسية نوعاً من الحرص “المرضي” على التفرد بإدارة ملف الأزمة اللبنانية، ونوعاً من “الأنانية” و”الرغبة بالتملك” تجاه كل أمر يخص لبنان، أو كل تحرك دولي نحو لبنان.
وهذه “السمات السلوكية المرضية” التي طبعت في الآونة الأخيرة الدور الفرنسي في لبنان، هي المسؤولة برأي شركاء باريس الدوليين والإقليميين في معالجة الملفات اللبنانية، عن عدم حصول اجتماع باريس لدعم الجيش اللبناني الذي كان مقرراً نهايات هذا الشهر، وإرجائه إلى موعد آخر.
والقصة هنا هي أن باريس تقصدت أن لا تنسق على نحو كاف مع الدول المشاركة في هذا الاجتماع، وكانت غايتها من ذلك هي إخضاع كل شاردة وواردة في هذا الاجتماع لمشيئة باريس، ولما تريده فرنسا في آخر منطقة وجود لها (أي لبنان) في المشرق العربي، وعلى ضفة المتوسط القديمة، وفوق سطح الشرق الأوسط الملتهب.
.. واضح أن هذا التفرد الفرنسي في الإعداد لاجتماع دعم الجيش اللبناني، استفز الدول المدعوة إليه (وعلى رأسهم أميركا)، ما جعلها تدعو باريس إلى تأجيل موعده، وذلك تحت مبرر – أو بكلام أدق – “تحت حجة” أن باريس لم تبلغ الدول المشاركة في الاجتماع بموعد عقده قبل وقت كاف كي تحضر ملفاتها إليه، وأيضاً لأن باريس نسقت جدول أعمال الإجتماع من دون الوقوف على رأي المشاركين فيه.
ويمكن لباريس أن تفهم طلب تأجيل الاجتماع الذي قادته واشنطن ووافقت عليه بحماس معظم الدول المدعوة للمشاركة فيه على أنه رسالة تتكون من ثلاثة بنود:
البند الأول: توجيه تحذير أميركي للإليزيه بانتهاء مرحلة تكليف فرنسا بتعبئة فراغ واشنطن في لبنان؛ وهذا يعني أن أميركا عادت ليكون لها حضور مباشر في الملفات اللبنانية، وبخاصة في ملف الجيش اللبناني الذي يبدو أن البيت الأبيض يفضل أن تتم إدارة احتياجاته بالتشارك مع الدوحة، وليس مع باريس.
البند الثاني: ان واشنطن باتت ميالة لجعل “اللجنة الخماسية” هي إحدى أذرع مهمة هوكشتاين، وليس العكس.. بمعنى آخر تريد إدارة بايدن جعل كل الأزمة اللبنانية ابتداء من القرار ١٧٠١ وصولاً لانتخابات العام ٢٠٢٦ وبينهما ملف الشغور الرئاسي، تحت عناية هوكشتاين الذي بدأ يعمل ضمن مفهوم أن الملف اللبناني من أزمة الجنوب إلى الأزمة الداخلية، هو صفقة واحدة ولا تتجرأ معالجته.
البند الثالث يتعلق بتوجه واشنطن لتطعيم دور اليونيفيل في الجنوب بدور للأمم المتحدة في الحل النهائي لترتيب الحدود اللبنانية مع فلسطين المحتلة.. ويعود هذا التوجه لكون أزمة مزارع شبعا تحتاج لدور دولي أكبر من دور اليونيفيل؛ والواقع أن هذا المستجد يجعل دور باريس في ١٧٠١ أقل قوة مما كان عليه طوال المرحلة الماضية.. ولذلك فإن باريس، وبخاصة بعد إرغامها على تأجيل عقد اجتماع دعم الجيش اللبناني، تجد نفسها أنها قد تكون على مقربة من تعرضها لخطوة “كش ملك” أميركية جزئية من لبنان، وقد تصبح هذه الخطوة كلية في حال وصول ترامب المتحفظ على الشراكة مع الأوروبيين، للبيت الأبيض.