ملتقى بيروت عقد ندوة حول “مستقبل القضية الفلسطينية”
متري: المطلوب تشكيل قيادة فلسطينية موحّدة تشمل فصائل المقاومين والوطنيين المستقلين في إطار منظمة التحرير تصرّ على حلّ عادل يرتكز على إقامة الدولة الفلسطينية.
زيدان: هل تنتهي حرب غزة بحلّ عادل للقضية الفلسطينية، أم بنهاية القضية وإنشاء الدولة اليهودية؟
عقد ملتقى بيروت ندوة، في مقرّه ، حول “مستقبل القضية الفلسطينية” تحدّث فيه الوزير السابق الدكتور طارق متري، وحضرها االنائبان فؤاد مخزومي وفيصل الصايغ والوزيران السابقان خالد قباني ومحمد المشنوق والأستاذ صلاح سلام، ومدراء عامون ورؤساء جمعيات ثقافية واجتماعية وشخصيات سياسية وفكرية واجتماعية.
ابتدأت الندوت بكلمة رئيس الملتقى الدكتور فوزي زيدان رحّب فيها بالحضور، وجاء فيها: “بدأت معاناة فلسطين والمنطقة العربية منذ الحروب الصليبية (1096 – 1272 م) التي كانت سلسلة من الصراعات العسكرية ذات طابع ديني، والذي خاضته معظم دول أوروبا المسيحية للسيطرة على الأراضي المقدّسة، التي كانت تحت سيطرة المسلمين، ومعلوم أنّ المسيحيين كانوا يعيشون في وئام مع المسلمين، يمارسون شعائرهم الدينية بحرية وسلام، حتى أنّ الخليفة الراشدي عمر بن الخطاب عندما دخل بيت المقدس (إيلياء) وتسلّم مفاتيحها من البطريرك صفرنيوس في العام 636 ميلادي، وكان جالساً في صحن كنيسة القيامة عندما حضرته الصلاة وأشار إليه البطريرك بأن يصلي فيها، فأبى حتى لا يتّخذ المسلمون الكنيسة مسجداً من بعده، فصلّى خارج باحة الكنيسة”.
وأضاف: ” توالت العقود، وعادت القضية الفلسطينية أو الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي إلى واجهة الأحداث، منذ العام 1897 تاريخ عقد “المؤتمر الصهيوني الأول” الذي كرّس الصهيونية والهجرة اليهودية إلى فلسطين والاستيطان فيها وإقامة دولة لليهود فيها، وحتى الوقت الحالي.
ولاقى المشروع الصهيوني غضباً شعبياً فلسطينياً ورفضاً قاطعاً من كل الشخصيات السياسية والزعماء الدينيين والعسكريين آنذاك وكانت هذه بداية نشوء المقاومة الشعبية في فلسطين. رحّبت الدول الغربية بالمشروع الصهيوني، فتلقى منها الدعم المالي والعسكري واللوجستي، حيث رأت في الدولة العبرية التي يطمح الصهاينة لإنشائها في فلسطين حماية لمصالحها في المنطقة. وتوّج الدعم الغربي بوعد بلفور الذي أصدره وزير خارجية إنكلترة آرثر جيمس بلفور باسم ملك بريطانيا لزعماء الحركة الصهيونية في 2 تشرين الثاني عام 1917 بتأسيس وطن قومي لليهود على أرض فلسطين.
وتعامل معظم الحكام العرب مع المشروع الصهيوني بعدم اهتمام واكتراث، بينما تعامل معه بإيجابية الأمير فيصل بن الحسين الذي وقّع مع رئيس المنظمة الصهيونية العالمية حاييم وايزمان اتفاقية في 3/1/1919 يُعطي فيها لليهود تسهيلات في إنشاء وطن في فلسطين والإقرار بوعد بلفور”.
ثمّ قال: “تتمحور القضية الفلسطينية حالياً حول قضية اللاجئين الفلسطينيين وحقّهم في العودة إلى بلدهم وشرعية دولة إسرائيل واحتلالها للأراضي الفلسطينية، وما نتج عن ذلك من ارتكابها للمجازر بحقّ الفلسطينيين وعمليات المقاومة ضد الدولة العبرية، وصدور قرارات كثيرة للأمم المتحدة كالقرار 194 والقرار 242. وتعدّ القضية الفلسطينية جزءاً جوهرياً من الصراع العربي – الإسرائيلي، وما نتج عنه من أزمات وحروب في منطقة الشرق الأوسط.
ويحظى الصراع في فلسطين والمنطقة باهتمام سياسي وإعلامي نتيجة تورّط العديد من الأطراف الدولية فيه، نظراً لتمركزه في منطقة حسّاسة من العالم وارتباطه بقضايا إشكالية مثل الصراع بين الشرق والغرب، وعلاقة الأديان اليهودية والمسيحية والإسلام فيما بينها، وعلاقات العرب مع الغرب، وأهمية النفط العربي للدول الغربية، وأهمية القضية اليهودية وحساسيتها في الحضارة الغربية وقوى ضغط اللوبيات اليهودية في العالم الغربي.
وتتابعت الأحداث والتطورات، وكانت هزيمة حرب الـ 67 التي احتلت إسرائيل بنتيجتها القدس والضفة الغربية وغزة، وبدأت تقيم فيها المستوطنات وتفرض حصاراً عليها وتعتقل آلاف الناشطبن الفلسطينيين”.
وأردف قائلاً: “ثمّ غابت القضية الفلسطينية عن أجندة الحكام العرب ووجدانهم، وبدأت دول عربية التطبيع مع إسرائيل وإقامة علاقات ديبلوماسية واقتصادية معها، وحلّ اليأس بالفلسطينيين من تنكيل الإسرائيليين بهم وعدم اكتراث العالمين العربي والدولي بقضيتهم العادلة، فأتى “طوفان الأقصى” ليعيد القضية الفلسطينية إلى واجهة الأحداث والاهتمامات العالمية، حيث وجدت تعاطفاً كبيراً من شعوب العالم، بخاصة شعوب أوروبا والولايات المتحدة، نتيجة المجازر التي ارتكبتها إسرائيل، وما زالت، في غزة، انتقاماً وثأراً لكرامتها وكرامة جيشها”.
وخنم متسائلاً: هل تؤدّي نهاية الحرب في غزة إلى حلّ عادل للقضية الفلسطينية، يرتكز على إقامة دولة فلسطينية على حدود 1967 وعاصمتها القدس، أم إلى نهاية القضية الفلسطينية، نتيجة الرفض الإسرائيلي والتغاضي العربي والتآمر الدولي، وبدء إسرائيل بإنشاء دولة يهودية في كل فلسطين بعد طرد أهالي غزة والضفة الغربية وعرب الـ 48 إلى خارج فلسطين؟
ثمّ بدأ الدكتور طارق متري محاضرته الآتي نصّها: نلتقي بظلّ المعاناة الهائلة للشّعب الفلسطيني في غزة وثباته في أرضه. غزة تولد من النار كم يقول محمود درويش. وأهلها ضحايا جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانيّة، بل جريمة إبادة جماعيّة أيّ أعمال تندرج تحت اتّفاقيّة الإبادة الجماعيّة رأت محكمة العدل الدّوليّة أنّها جديرة بالتّصديق ممّا سوّغ التّدابير المؤقّتة والاحترازيّة المتضمّنة في قرارها. كما نشهد، وبالتّزامن مع العنف الواسع والمنقطع النّظير النّازل على غزّة، تعرّض فلسطينيّي الضفّة الغربيّة لاعتداءات متصاعدة من قبل المستوطنين الذين يحظون بدعم الأجهزة العسكريّة والأمنيّة الإسرائيليّة، أكان ذلك من خلال غضّ النّظر أو التّواطىء أو المساندة المباشرة.
ورغم ضراوة الحرب على الشّعب الفلسطيني، بات جليّاً، وحتى الآن، أنّ تهجير أهل غزّة غير مستطاع رغم كلّ الأهوال وذلك بقوّة إصرار الغزّاويّين على البقاء في أرضهم في ضوء ما حفرته في ذاكرتهم المجازر التّهجيريّة السّابقة ومرارة اللجوء. لكنّ التّدمير الذي بلغ حدوداً لم نعرف نظيراً لها، على صعيدي قتل البشر وهدم الحجر، يستمرّ بلا توقّف ويهدف إلى جعل قطاع غزّة غير صالح للعيش.
بالمقابل، لا تزال الضّغوط المعنويّة والسياسيّة قاصرة دون وضع حدّ للعدوان وفرض وقف إطلاق النّار. لكننا نسمع كلاماً كثيراً عن المستقبل، عما بعد غزّة والعمليّة السّياسيّة التي ستطلق بعد إنتهاء الحرب. فإلى القول المُلتبس أو الذي يكتنفه الغموض حول حلّ الدّولتين والذي يتردّد هنا وثمّة، يبدو الاهتمام بلون من التّطبيع بين إسرائيل والدّول العربيّة أولى عند الولايات المتحدّة من وقف الحرب والعمل الجاد من أجل الحلّ المذكور. ويدفعنا ذلك إلى الخشية من أن يأتي الوعد الجديد بدولة فلسطينيّة، أو إستعادة وعود قديمة لم يتحقّق منها شيء، وهماً لا يعيش طويلاً أو ذريعة للتطبيع المذكور.
لسنا اليوم امام تصديق الوعود وتوقع الوفاء بها، بل امام اختبار حقيقة المواقف العربية والدولية. ولعلّ المدخل إلى ذلك هو الضّغط الفعلي على إسرائيل لإرغامها على وقف النّار. وتبقى الأولوية، بل تزداد حراجة وأهمية، لبناء وحدة الشعب الفلسطيني الوطنية وتحقيق شرعية تمثيل شامل له. صحيح أنّ الصراع على فلسطين لم يعد مجرد نزاع منخفض الحدة توليه الدول العربية والدول الغربية المؤثرة اهتماما ثانويا وأنّ القضية إستعادت حيويّتها في قلب الواقع العربي والدولي وأنّ التّضامن الفعلي قادر أن يغيّر هذا الواقع. ولو جزئيّاً. الّا أنّ التّعاطف الشّعبي في غير بلد عربي وغربي، والذي جليّاً، لمّا يحرج الحكومات أو يضغط عليها بقدر كاف.
ولا يخفى على أحد أنّ المطالبة بوقف الحرب تتّسع وسط الرّأي العام في العالم كله. لكنها لم تصل بعد إلى حدّ التّأثير الحاسم على سياسات الحكومات. ولم يتوقّف الأمر لدى أحرار العالم عند المطالبة بوقف إطلاق النّار، بل ظهرت أشكال من الدّعم الشعبي الحقيقي مع الشّعب الفلسطيني في محنته وفي مقاومته الاحتلال والاستيطان.
لكنّ الإخفاق في وقف الحرب، وحتى الأن، يدعوإلى تفكر يتجاوز تكرار الكلام المألوف عن نفوذ إسرائيل في الولايات المتحدة وغيرها من الدول الغربية. ووضع العدوان على غزّة تحدياتٍ جديدةً على مستوياتِ القضيّة الفلسطينيّة كلها، الأخلاقية والقانونية والسياسية. وكشفت الحربُ، بطريقة تبدو أوضح في أذهان الكثيرين حقيقة الاستعمار الاستيطاني في تهجير المستعمر ومواصلة العمل للقضاء على وجوده. كما ظهرت ممارسة سياسة القوة بلا هوادة نتاجاً لجدلية الصدمة والسعي لتأكيد التفوق.
رأينا المجتمع الإسرائيلي وكأنه قبيلة موحّدة، وكما في الأزمات الكبرى، وحّدته عصبية مقصية أو مهمشة لأي رأي مخالف. وطغت غريزة الانتقام والثأر المصرّة على أن يعاقب السكان الأصليون دون تمييز على ما جرى يوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر. فالعقلية الإستيطانية لم تسلِّم يومًا بوجود من بقي في أرضه، أي على أجزاء من فلسطين التاريخية. واشترط تسامحُ الدخيلِ مع وجود الأصيل سلوكا طيّعا من قبله. لا يتقبّل المحتل أيَّ مظهر قوّةٍ يُظهِرُها السكان الأصليون. يرد عليها بالعقوبات الجماعيّة؛ يبدأ ذلك بهدمِ بيتِ عائلةِ من يُقْدِم على عمليّةٍ مُسلّحة ضد الاحتلال، ومعاقبة القرية أو المدينة التي خرج منها مقاومون أو إغلاق المناطق المحتلّة برمّتها، وصولًا إلى تدمير قطاع غزّة وجعله غير صالح للحياة.
في المقام الأول، يعتمد الاحتلال على العنف. وأيُّ توانٍ في ممارسته يؤدي إلى إثارة المخاوف في مجتمع المستوطنين ما يضطر الدولة إلى استخدام العنف أضعافًا مضاعفة. فتُعبَّأ كل الطاقات لصالح المعركة بوصفها ردًا على تهديد وجودي. والتهديد الوجودي يشملُ الوجودَ كلَه، وتنتج التعبئة الشاملة نوعًا من النظام الشمولي الذي يحول المواطنين إلى مجرد مقاتلين. ولا يمارَس الثأر والانتقام لإرضاء كبرياء المحتلين وشعورهم بالتفوق، بل يسعى إلى تلقين الفلسطينيين وجيرانهم درسًا لا يُنسى. فلا يكون الأذى الكبير للاحق بالمدنيين الفلسطينيين عرضيًا أو جانبيًا، بل هو من أهم أهداف الحرب؛ ما يؤدي حتمًا إلى الإبادة بتعريفها الدولي.
ابعد من ذلك، تصبح كل الممارسات مباحة، بما في ذلك التفنّن في الكذب وشيطنة الآخر، والاستخدام المغرِض لاستعارات المحرقة النازية التي وقعت في مكان وزمان آخرين وحضارة أخرى. لعلّنا نتذكّر أنّ جنودًا إسرائيليين سمعوا، وهم في طريقهم إلى غزة، يقولو إنهم يشعرون بأنهم يدخلون إلى معسكر أوشفتس لمحاربة النازيين، فأساؤوا لا لضحاياهم فحسب، بل لضحايا النازية أيضا.
على صعيد آخر، أعنى به العلاقة بين الدول العربيّة وقضية فلسطين، أكدت الحرب على غزة ما سبق أن كشفه حصار بيروت عام 1982، وحصار المقاطعة في رام الله عام 2004، وحرب 2006 على لبنان، والحروب المتتالية على غزّة وهو أنّ قضيّة فلسطين قضية كل دولة عربية على حدة. تتأثر بها بعض الدول أكثر من غيرها. ولكنها، مهما كان من أمر ذلك، قضية العرب جميعهم بوصفهم عربًا. فالرأي العام العربي متضامنٌ مع فلسطين وهو رافضٌ لأي تطبيع مع إسرائيل. ربما صار هذا التضامن بين الشعوب خميرةً للمستقبل كما أصبح بعد حرب 2009 على غزة، ولكنّه في حدِّ ذاته لا يُغيّر على نحو فوري سلوك الحكومات الناجم عن شبكة علاقات تربط كل نظام على حدة في علاقات إقليمية ودولية، وإن اضطر أحيانًا إلى مسايرة التعاطف الشعبي مع الفلسطينيين.
ومن المفيد أن ننظر إلى الفرق بين حركات التضامن الإنساني مع أهل غزة في بعض الدول الغربية والتي تتصاعد ولا تتراجع وبين فورات الغضب عندنا التي تعلو ثم تخبو بفعل الخوف من تبعات المشاركة في احتجاج شعبي مثابر. ففي بعض البلدان يبدو الاحتجاج القوي شبه محظور. لا زالت بعض الدول العربية غير مستعدة لمراجعة مواقفها ومراعاة مشاعر شعوبها. فهناك دول غير راغبة في التخلي عن فكرة السلام المنفرد مع إسرائيل من دون حلّ عادل لقضية فلسطين
أما على مستوى العلاقة بين إسرائيل والقوى المتحالفة معها في الغرب، ولا سيّما الولايات المتحدة الأميركية، تبيّن الحرب على غزة أنّها تقوم على المصالح، ولكنه لا تقتصر عليها. وقد شهدنا سلوك المؤسسات الإعلامية الكبرى في التعامل بمعايير مزدوجة ليس فقط مع القضايا السياسية، بل حتى مع الأمور الإنسانية مثل معاناة الفلسطينيين. وسوف يلاحقها عار إشاحة النظر عن الجريمة لمدة طويلة وإن فرض عليها استمرار حرب الإبادة نشر أخبار أكثر توازنًا في الفترة الأخيرة.
عملت إسرائيل، بقدر من النجاح، على تعزيز رؤيتها للمنطقة وتصنيفها الأصدقاء والأعداء، بما في ذلك شيطنة مؤسّسات أممية مثل وكالة غوث اللاجئين، ودولاً ومجتمعات بعينها ومؤسّساتها الجامعية والإعلامية إلى درجة تخوين من يخالفها أو معاقبته. وثبّتت إسرائيل في علاقتها مع الدول الغربيّة، ولا سيّما الولايات المتحدة، مصالح مشتركة لا تقتصر على تلقي الدعم لأنها بنت شبكة علاقات قرار بحيث تكون قادرة على أن تفرض على دول الغرب مواصلة دعمها على الرغم من الاختلاف في الرؤية. من نافل القول أنّ للدول الكبرى مصالحَ وأهواء متنوعة في المنطقة، وأنّ إسرائيل تعد حليفًا مستقرًا وقوةً عسكريةً رادعة. لكن الحكومات العربية إن استجابت لإرادة شعوبها، ولو كان ذلك لأسباب داخلية لا علاقة لها بفلسطين، فسوف تصطدم مع تصورات إسرائيل لمستقبل المنطقة. ويمكن عندها أن تُصبح صداقة إسرائيل عبئًا على الدول الكبرى في المنطقة. ولو كانت الدول العربية قادرة على الاتفاق على موقف عربي مشترك في التعامل مع الولايات المتحدة في قضية فلسطين وغيرها من القضايا الإقليمية عوض التنافس فيما بينها لكانت قادرة على الحد من التأثير الإقليمي والدولي الإسرائيلي.
واليوم، أعادت عمليّة 7 تشرين الأوّل/ أكتوبر، وحرب الإبادة الإسرائيليّة التي شُنّت على غزة، القضيّة الفلسطينيّة إلى الواجهة، وإلى جدول الأعمال الإقليمي والدولي. ولكن إسرائيل تسابق الزمن في سعبها للحؤول دون استمرار تلك العودة. وتواصل إسرائيل الحرب على الرغم من اتساع القناعة لدى الحكومة الأميركية بعدم جدوى مواصلة التدمير بعدما لم يعد هناك ما يُدمَّر، فضلا عن إمكانية استنزاف إسرائيل رصيد التعاطف معها. ولا تستطيع دولة الاحتلال مواصلة حرب طويلة دون اعتماد كبير على الدعم الأميركي مما يزيد قدرة الولايات المتحدة على الضغط على إسرائيل، ولكنها لا تفعل، بل تكتفي بالنصح والانتقاد الخجول. بناءً على كل ذلك، نجدنا أمام غير احتمال بالنسبة لمستقبل القضية الفلسطينية. سوف تحاول إسرائيل وحلفاؤها فرض "ترتيبات سياسية جديدة" تبدأ من إدارة غزة على نحو يُبعد الشعب الفلسطيني عن ممارسة حقوقه الوطنية أكثر مما أبعدته اتفاقيات أوسلو. وإذا فرض هذا الترتيب الجديد"، فسوف يمرّ الوقت أيضًا كما مرّ منذ تلك الاتفاقيات بتعوُّد مراحل انتقالية جديدة، واستيطانٍ لا يُبقي أثرًا لأي احتمال لنشوء دولة فلسطينية، وانتخابات إسرائيلية تتلوها انتخابات أميركية، وصراعات على سلطة بلا سيادة.
أما الاحتمال الآخر الذي يستحق أن نتوقف عنده فهو الّا تتجاهل القوى المؤثرة على الصعيد الدولي والحكومات العربية الثّمن الفادح الذي دفعه الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة والجحيم الذي عاشه. فلا تذهب معاناة هذا الشعب سدى. أما القضية الثانية والحيوية لمستقبل الشعب الفلسطيني فهي العمل من أجل تشكيل قيادة فلسطينية موحدة تشمل فصائل المقاومين والوطنيين المستقلين في إطار منظمة التحرير فتؤكد شرعية تمثيلها الشعب الفلطبني كل، تصرّ على الحل العادل، وتسندعي دعم الشعوب والدول العربية وتستند إلى الرصيد المعنوي الكبير الذي تكون بفعل التضحيات الكبيرة.
إنّ أجدى ما يمكن أن نقوم به جميعنا، كلٌ من موقعه وانطلاقا من القيم التي يؤمن بها، هو التضامن الوطني والإنساني لتخفيف معاناة الناس في غزة، والعمل على التصدي لدعاية حرب الإبادة الإسرائيلية وافتراءاتها، والضغط على القوى السياسية الفلسطينية لكي تأتلف حتى لا يأتي اليوم التالي وتفرض ترتيبات من دون حلّ عادل لقضية فلسطين يضمن عدم تكرارالجرائم بحقّ شعبها.