خاص الهديل:
بقلم ناصر شرارة
“مجزرة الطحين”: مواطنو غزة أمام معادلة “التعاون ضد حماس مقابل الغذاء”
كل التصريحات الإسرائيلية التي عقبت على مجزرة الطحين الدامية التي حدثت يوم أمس في شمال غزة، قالت أن الفاعل هم السكان الغزاويون (!!) وليس الجيش الإسرائيلي..
المتحدث بإسم الجيش الإسرائيلي قال أن شاحنات المساعدات الثلاثين دخلت رفح، ثم عبرت المعبر الذي يسيطر عليه الإسرائيليون؛ وبعد تخطيها مسافة ٤٠٠ م إلى داخل الحدود في غزة، تدافع المئات من الغزاويين للحصول على مساعدات غذائية، فحصل هرج ومرج وتدافع أدى لمقتل العشرات منهم؛ أما الدبابة الإسرائيلية التي كانت على مقربة من المكان فهي اشتبهت بحركة غزاويين يقتربون منها، فخاف الجنود وأطلقوا النار على الأجزاء السفلية من أجسادهم!!
إلى هنا الرواية الرسمية الإسرائيلية التي يقول مؤداها ببساطة إن الغزاويين الجائعين قتلوا بعضهم البعض نتيجة حالة الفوضى التي تسود أوضاعهم.
السؤال الواضحة إجابته؛ ومع ذلك يظل طرحه مهماً للغاية، هو ليس من فعل مجزرة الطحين(؟؟)، أو كيف حصلت مجزرة الطحين(؟؟)، بل لماذا ارتكبت إسرائيل مجزرة الطحين في شمال غزة؛ وما هي أهدافها منها؟؟.
منذ قيام الجيش الإسرائيلي بتقسيم غزة الى ثلاثة أقسام، شمال ووسط وجنوب، وقيامها بتقطيع أواصر التواصل بين هذه المناطق الثلاثة، كان واضحاً ما هو الهدف الإسرائيلي في كل واحدة من هذه المناطق: في الوسط أقامت إسرائيل “خط فصل”، بل على الأصح “خط قتل” بين شمال القطاع وجنوبه؛ أما في الجزء الشمالي من القطاع ركزت إسرائيل على هدف إخلائه من المواطنين وتدمير كل أسباب الحياة فيه.. ومن أصل نحو مليون ونصف نسمة هم مواطنو شمال غزة، لم يبق منهم في الشمال سوى نحو ٥٠٠ ألف غزاوي.. وهؤلاء عزلوا داخل مناطقهم وأصبحوا لا يملكون على مستوى قوتهم، إلا ما توفره لهم حافلات المساعدات الغذائية التي تصل إليهم من معبر رفح، وبالأساس التي تسمح إسرائيل بدخولها إليهم.
نحو سبعين شاحنة محملة بالمواد الغذائية هي كل ما سمحت به إسرائيل أن يدخل على دفعات إلى شمال غزة منذ بدء شهر شباط. وفجر أمس فقط قررت إسرائيل لأسباب غير واضحة، أن تسمح بإدخال ٣٠ شاحنة دفعة واحدة إلى تلك المنطقة.
واضح أن إسرائيل تقصدت أن ترفع عدد شاحنات المساعدات إلى شمال غزة في فجر أول من أمس، وذلك بعد طول تقطير في عددها؛ وهدفها من ذلك أن ينتشر خبر “الكرم” الإسرائيلي المستجد بين الغزاويين الجائعين، فيتقاطرون بأعداد كبيرة لنيل حصص غذائية، فيقعون في مصيدة إطلاق النار عليهم؛ وتغطية هذه الجريمة بعنوان أن سبب وراء ما حصل هو الفوضى ودخول غزة “حالة الصوملة”.. بمعنى آخر فإن إسرائيل تشبه هنا من يقفل صبورة مياه الشرب لفترة طويلة، ثم يفتحها دفعة واحدة وبشكل مفاجئ على مرآى من عيون عطاشى؛ ولذلك فإن نتيجة تدافعهم للشرب ستكون طبيعية؛ ولكن هذا التدافع لن يسبب بالضرورة وفاة العشرات منهم كما تحاول إسرائيل أن تصور المشهد..
إن ما تقدم يقود إلى الاستنتاج الأول في هذا السياق، وهو أن إسرائيل رتبت لمشهد يتضمن أسباب حدوث تدافع أثناء وصول شاحنات المساعدات الغذائية إلى متناول سكان شمال غزة الجائعين والمحرومين منذ فترة من وصول مساعدات كافية لهم.
أما الإستنتاج الثاني فإن القرائن عليه موجودة بالتحليل الذي بثته قناة الـ ١٢ الإسرائيلية قبل يوم واحد من حدوث مجزرة الطحين.. قالت القناة أن هناك مشكلة بموضوع توزيع المساعدات الإنسانية على سكان شمال غزة؛ قوامها أنه بعد أن تدخل هذه المساعدات مسافة ٥٠٠ م بعيداً عن نقطة تسليمها حيث يوجد الجيش الإسرائيلي، تتقدم حماس وتحصل عليها وتتصرف بها لصالحها.
وقالت قناة ١٢ أن المطلوب هو أن يكون هناك ممثلون عن سكان شمال غزة تعرفهم إسرائيل، يتم تسليمهم المواد الغذائية، وبهذه الطريقة تتأمن ضمانة عدم مصادرة حماس لهذه المساعدات. وأكثر من ذلك اقترحت قناة ١٢ أن يتم بناء ساحات مسورة توضع بها المساعدات الغذائية وتشرف عليها إسرائيل، ويدخل إليها مواطنو شمال غزة فرداً فرداً لنيل حصصهم الغذائية.
إن كلام قناة ١٢ يشكل أولاً تمهيداً لجعل الرواية الرسمية التي قدمتها إسرائيل في اليوم التالي عند حدوث مجزرة الطحين، لها مقبولية داخل الإعلام العالمي؛ ويشكل ثانياً دليلاً على أن إسرائيل تريد وضع يدها الأمنية على غذاء سكان غزة الشمالية؛ أي إرساء معادلة تقول “التعاون ضد حماس مقابل الحصول على غذاء”؛ ويشكل ثالثاً قرينة تؤكد من وجهة نظر إسرائيل أن الغزاويين في الشمال لا يموتون فقط لأن حماس تتمترس بين ظهرانيهم، بل لأنهم لا يسعون لتنظيم إدارة لهم توزع عليهم الغذاء وتتدبر شؤون حياتهم، بعيداً عن سيطرة حماس عليهم (!!)
ببساطة إن مجزرة الطحين في شمال غزة هي جزء من خطة الحرب الإسرائيلية ذات الصلة بشكل الحكم في غزة في اليوم التالي بعد وقف الحرب.. ويجدر هنا الإشارة إلى أن مجزرة الطحين حصلت بعد الترويج الإسرائيلي لإجراء اختبار في حي الزيتون في مدينة غزة حول إمكانية إنشاء إدارة مدنية فيه متعاونة مع الاحتلال.. وقد وجهت إسرائيل جيشها للقيام بعملية تمهيد الحي لبدء إنشاء أول نموذج عن الادارة المدنية في غزة؛ ولكن النتيجة كانت نشوب مقاومة عسكرية من قبل حي الزيتون للجيش الإسرائيلي؛ ما جعل الأخير يرد على رفض حي الزيتون لمشروع الإدارة المدنية، برسالة “مجزرة الطحين” الدامية..