خاص الهديل:
بقلم: ناصر شرارة
يشغل الجنرال المتقاعد إسحاق بريك حيزاً واسعاً من الشهرة في إسرائيل، وذلك بالنظر لآرائه التي تمتاز بأنها لا تساير التفكير النمطي العام السائد داخل المجتمع العسكري والسياسي الإسرائيلي؛ وداخل إسرائيل يطلق عليه لقب “نبي الغضب”.
.. والواقع أنه بعد عملية ٧ أكتوبر شاع إسمه أكثر ليصل صداه إلى مختلف أطياف الجمهور الإسرائيلي، والسبب في ذلك هو كونه كان حذر قبل ٧ أكتوبر من أن إسرائيل ستواجه حدثاً عسكرياً كبيراً، وستقشل في الاستجابة لتحدياته..
صباح هذا اليوم، كتب إسحاق بريك في “هأرتس” مقالة وجدت لها صدى كبيراً داخل إسرائيل، ركز فيها على نقاط رئيسة منها أن شعار القضاء على حماس بشكل مطلق الذي يرفعه نتنياهو، هو شعار أجوف؛ وأن إسرائيل في حرب بقاء؛ وفي حال لم يتم تغيير المستويين الأمني والعسكري فيها، فإن إسرائيل قد تخسر هذه الحرب.. وشدد بريك على أن المستويين العسكري والسياسي الإسرائيليين تعفنا، ويجب استبدالهما؛ لكن الاستنتاج الأهم والأساسي الذي يتوصل إليه بريك يفيد بأن نتنياهو يختار في كل مرحلة نوعية خطر معين يقدمه على أنه التهديد الإستراتيجي لإسرائيل، ولكن يتبين لاحقاً أن نتنياهو اختار التركيز على هذا الخطر دون غيره لأنه يخدم مصلحته السياسية وليس لأنه يخدم مصالح أمن إسرائيل العليا..
ويفند بريك نظريته هذه بالقول أنه قبل عملية ٧ أكتوبر كان نتنياهو يصرف كل طاقته على هدف وضعه نصب أعين إسرائيل، وهو القضاء على إيران النووية؛ كل صباح كان نتنياهو يردد هذا الشعار، وقد صرف مبالغ ضخمة في تدريب طيارين على قصف مواقع نووية في إيران؛ ولكن بعد ٧ أكتوبر اختفى هذا الشعار فجأة؛ ولم يكرره نتنياهو مرة أخرى؛ وحل مكانه فوق شفتيه، شعار القضاء الكلي على حماس..
يقول بريك أن نتنياهو يردد اليوم في كل وقت أن الخطر الأكبر على إسرائيل هو بقاء حماس، وأمس كان يردد كل الوقت بأن الخطر الأكبر على إسرائيل هو تسلح إيران النووي؛ وهل يعقل أن خطر حماس صار أهم من خطر إيران النووية؟. هذا السؤال لا يجيب عنه نتنياهو حالياً؛ وبدل ذلك يستمر بطرح شعاره الأول القضاء على حماس كلياً!!.
وبنظر بريك أن ما يجب استنتاجه هنا، هو أنه بالنسبة لنتنياهو فإن الخطر يتغير وفق تغير مصالحه، وليس احتياجات إسرائيل الأمنية الاستراتيجية.. وعليه فإن الخطر المركزي الذي يقصده نتنياهو في كل مرحلة، هو الخطر على مستقبله السياسي، وليس بالضرورة على أمن إسرائيل.
وبعيداً عن اسطونة نتنياهو المستمرة بالدوران، فان ما يجب لفت النظر إليه هو أن مصطلح تغيير المستويين العسكري والسياسي الإسرائيليين، أصبح شائعاً في هذه الفترة داخل البيئات النخبوية الإسرائيلية؛ علماً أنه حتى هذه اللحظة لا توجد آلية عملية لتحقيق هذا الهدف؛ فنتنياهو يمسك بائتلاف حكومي محصن بـ٦٤ إلى ٦٨ نائباً؛ وهؤلاء أغلبيتهم الحاسمة من معسكر اليمين المتطرف الذي يستحيل استمراره في الحكم من دون وجود نتنياهو على رأس قيادته. وهذا الواقع جعل نتنياهو يبدو حالياً كجرس يقود قطيعاً له آذان ولكنه لا يسمع، وله عيون ولكنه لا يرى..
هناك مقولة لها أنصار كثيرون داخل الوسط العربي وبين صفوف المركز الإسرائيلي (اليسار والوسط) يقول مضمونها أن “حماس تخطف الأسرى؛ وبن غفير يخطف نتنياهو؛ ونتنياهو يخطف إسرائيل”.
مع الوقت تبين أن هذه المعادلة صحيحة بالشكل، ولكن بالمضمون فإن الأصح هو أن تداعيات عملية ٧ أكتوبر لا تزال تخطف كل المناخ السياسي والعسكري الإسرائيلي؛ وذلك بغض النظر عن جبل المناورات المرتفع الذي يبنيه كل صباح بنيامين نتنياهو.
في الجوهر طرحت عملية ٧ أكتوبر سؤالاً كبيراً على كل إسرائيل، وعلى يهود الولايات المتحدة الاميركية، وليس فقط على نتنياهو وبايدن، وهو: هل حان الوقت أن تعترف إسرائيل بأن عليها أن تدفع الثمن السياسي الإستراتيجي الذي من دون دفعه لن تحظى بالأمن ولا يمكنها ضمان عدم تكرر عملية ٧ أكتوبر مرة أخرى؟؟..
والمقصود هنا بالثمن السياسي الإستراتيجي هو الاعتراف بالحقوق الفلسطينية، والعمل الصادق على إقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية.
هذا السؤال الكبير أصبح حالياً يشكل عملياً كل أجندة العمل الإسرائيلي سواء بالنسبة لليمين أو للوسط أو لليسار.. ويظل هذا الأمر صحيحاً حتى لو أن كل إسرائيل تنكر اليوم الاعتراف بهذا السؤال، وتحاول التهرب منه..
.. غير أن إنكار إسرائيل لهذا السؤال لا يعبر عن عدم وجوده وتفاعله داخل كل لحظة من الحياة السياسية الإسرائيلية، بل يعبر هذا الانكار عن عجز الحياة السياسية الإسرائيلية عن الاستجابة لموجبات هذا السؤال؛ وهذا ما يفسر لماذا تستمر الأزمة ولماذا تتحول إلى استعصاء عسكري ومن ثم إلى انسداد أفق سياسي وبروز تحديات وجودية كما يعتقد الجنرال بريك!!.