خاص الهديل:
بقلم: ناصر شرارة
ما حدث ليلة أمس من ردود فعل على مقتل المسؤول القواتي باسكال سليمان، يجب أن يوقظ المستوى السياسي والأمني في لبنان، من السبات العميق الحاصل منذ عام ٢٠١٩، وذلك تحت مبرر أنه لا داعي للقلق على الاستقرار الأمني اللبناني الداخلي، وذلك رغم وجود نازح سوري واحد بين كل خمس لبنانيين؛ ورغم وجود أكثر من نصف اللبنانيين تحت خط الفقر؛ ورغم حربي غزة وإسناد غزة، ورغم أن البلد ليس فيه حكومة فعلية ولا رئيس جمهورية، الخ.. رغم كل ما تقدم فإن الإجراء المعمول به رسمياً والمعتمد حزبياً هو إجراء أنه لا داعي للقلق لأن الأمن في لبنان ممسوك وإن كان غير متماسك؛ وهو منضبط تحت سقف الاستقرار النسبي الذي لا تريد لا واشنطن ولا موسكو ولا الدول العربية هزه..
ما تقدم هو مضمون “نشرة أخبار” حالة الأمن في لبنان التي اعتاد المواطن اللبناني على الاستماع اليها يومياً منذ عدة سنوات، وذلك من استوديوهات الأحزاب، ومن الناطق الرسمي بإسم الأجهزة الأمنية ومن المنابر الحكومية، الخ..
غير أن أحداث يوم أمس وليلة أمس، التي وقعت على خلفية جريمة قتل باسكال سليمان، جعل كل الأحزاب والأجهزة الأمنية وكل المستوى الرسمي السياسي، يضطر للخروج على عجل من سبات غرفة النوم المملؤة بأحلام أن الأمن في لبنان ينعم بضوابط “الاستقرار النسبي” المحمي دولياً والمعتمد داخلياً!!..
.. صحيح أن أعمال الشغب التي حصلت ليلة أمس يمكن إدراجها في مصاف أنها ردة فعل؛ وصحيح أن هذه الأعمال لم تتطور إلى أحداث أمنية خطرة؛ ولكن الصحيح أيضاً أن ليلة أمس تحتاج لقراءة سياسية – أمنية، وذلك من عدة زوايا:
الزاوية الأولى تتعلق بمدى الاحتقان الذي ظهر ليلة أمس؛ والمقصود هنا بالاحتقان هو كمّ مواد التفجير الموجودة تحت سطح يوميات الناس في لبنان؛ والآخذة بالتجمع منذ العام ٢٠١٩ حتى اليوم..
.. والمقصود بالاحتقان هو كل العوامل الكامنة التي لا يتم الاعتراف العلني والسياسي بها، والتي يتم إهمالها رغم خطورتها، والتي يدير لها المسؤولون ظهورهم رغم وجودها داخل البيوت الموصودة أبوابها؛ وداخل البيئات المغلقة..
.. الاحتقان لمن نسي المعنى السياسي والأمني لهذا المصطلح هو رفض الأمر الواقع المعاش ليس فقط السياسي بل أيضاً المعيشي والقانوني والاجتماعي والحزبي…
لقد تبين أمس أن شعور الاحتقان، صار له فترة غير قصيرة يتفاعل داخل القشرة الموجودة تحت سطح الأرض التي يعيش اللبنانيون فوقها؛ والتي اعتادت أو استسهلت الأجهزة الأمنية والأحزاب أن تسميها “واحة بالاستقرار النسبي” و”جنة الأمن الممسوك وغير المتماسك”!!
والواقع أن إحدى العبر الأساسية التي يمكن استنتاجها من أحداث ليلة أمس، هي أنه لا يوجد شيء في علم الأمن، وفي علم السياسة؛ إسمه “استقرار نسبي”، بل يجب استبدال هذا المصطلح، بمصطلح أدق واضح ومهني، ومفاده “احتقان نسبي” يتفاعل ويعتمل تحت قشرة البركان التي نعيش فوقها، والقابلة للانفجار في أي ظرف متوتر في حال طرأ أي مستجد داخلي أو خارجي.
وأيضاً إحدى العبر الأخرى الأساسية المستخلصة من أحداث ليلة أمس، هي أنه طالما أن “الأمن ليس كلياً”، وطالما أن الأمن ليس موثوقاً به من قبل الجميع في لبنان؛ وطالما أن الأمن لا يقوم على أربعة قوائم سياسية؛ فإن أمن لبنان في خطر وفي “حالة احتقان نسبي” وليس في “حالة استقرار نسبي”.
الزواية الثانية تتعلق بأنه يصح قياس أسباب الاحتقان في لبنان بنوعية التعليقات التي رددها الناس أمس على وسائل التواصل الاجتماعي وفي الشوارع وفي الإعلام.. ليس صحيحاً أنه يجب عدم استراق السمع لما يقوله المواطن على اعلامه الاجتماعي وأنه يجب الاكتفاء بالاستماع للمسؤولين الحزبيين والرسميين الذين تارة يجملون صورة الأمن الممسوك والاستقرار النسبي وتارة يهاجمونه لأسباب شعبوية.
الحقيقة أن كلام التواصل الاجتماعي مهم لقياس حالة الاحتقان في البلد والعمل من خلال الاعتراف بها على احتوائها ومعالجة أسبابها. الأحزاب لا تقول الحقيقة والمستوى الأمني لا يملك منبراً سياسياً ليصف الوضع كما هو، وحده المواطن يقول الحقيقة حتى لو كانت انفعالية وبحاجة لتشذيب وليس فقط لتكذيب..
لقد قال مواطنون مسيحيون ليلة أمس أنهم ليسوا خائفين، ولكنهم يشعرون بأن قدرتهم على تحمل عبء النازحين وعبء الوضعين السياسي والأمني، وصلت للحد الأقصى؛ وقال مسيحيون آخرون: كفى لكل شيء؟؟
بالمقابل وبالتوازي يجب بنفس درجة الإهتمام عدم إخفاء الأصوات التي ظهرت في الشارع المسلم بغض النظر عن الإسم الرسمي أو الحزبي لهذا الشارع؛ ويجب عدم الخوف منها؛ لأنها بالنهاية هي أصوات لم تعبر عن نفسها كأصوات حرب، بل بوصفها أصواتاً تؤشر إلى قناعة موجودة لدى كل اللبنانيين رغم تباين مواقعهم، بخصوص عدم الرغبة بالعنف..
وبمقابل أصوات مسيحيين عبرت عن وجود احتقان في شارعها، قال مسلمون أن الشك بأنهم هم وراء مقتل سليمان غير مقبول؛ وهذا الكلام يجب عدم إهماله، ويجب على السياسة أن تبني عليه معالجة سياسية، وليس فقط أمنية..
وفي هذا الاطار، وبخصوص جزئية المعالجة السياسية؛ يجدر القول أنه ليس غريباً أن يجتمع المجلس العسكري هذا اليوم حتى يجري تقييماً أمنيا لما حصل ليلة أمس؛ ولكن الغريب بالمقابل، هو أن لا يجتمع السياسيون والحزبيون حتى يتدارسوا سياسياً وعلى مستوى وطني، كيفية مواجهة ما حصل ليلة أمس، وحتى يقيموا سياسياً داخل البرلمان أو في أي منتدى آخر، وضع البلد أمنياً انطلاقاً من أحداث يوم أمس وليلة أمس!!
ما هو كان غائباً ليلة أمس، هو الخروج بنظرة سياسية للأمن الذي يتفاعل داخل مرجان الاحتقان، وليس الاكتفاء كالعادة بنظرة أمنية لحالة ما يسمى بالإستقرار الأمني النسبي..
دائماً الأمن يتحقق بالسياسة؛ وبغياب السياسة يصبح الأمن بدعة “استقرار نسبي” الذي له معنى عملي واحد، وهو الاحتقان الداخلي الخطر الذي لا يزال عند نسبة الغليان داخل “طنجرة الضغط”..
إن أهم مشكلة حدثت ليلة أمس، ليست فقط حوادث التكسير والاستنكار التي حصلت في شوارع ومناطق عدة، بل المشكلة الأكبر والأهم كانت بأنه لم يتم المبادرة إلى أي معالجة سياسية للوضع، وحتى إلى مجرد إعطاء “اسبرين سياسي” مسكن لصداع الأمن الذي تفلت فجأة أمس من عقال انضباطه النسبي!!
.. ومرة جديدة أمس، وكما غداً، وكما قبل الأمس، ينتشر الجيش اللبناني في مناطق الاحتجاج وفي دوائر أعمال العنف؛ ويبسط “سلطة الأمن النسبي” فوق رقعة الأحداث؛ ولكن الدولة لا تحضر مع الجيش لتبسط سلطة الأمن الكلي فوق ميدان الوضع الناشيء؛ لأن الدولة سلطتها سياسية وسلاحها المعالجة السياسية لأسباب المشكلة..
خرج لبنان ليلة امس من سبات الأمن النسبي، ولكن لبنان اليوم يستعد ليعود إلى غرفة نوم سباب الأمن النسبي، المملوءة بأحلام أن الخارج ليس له مصلحة حتى الآن بهز استقرار حالة عيش اللبنانيين مع الأزمات الكثيرة في بلد الأرز.