الهديل

خاص الهديل: “نهاية لبنان السياسي”.. وبقاء “لبنان الجغرافي!!”

خاص الهديل:

بقلم: ناصر شرارة

لم يكن لبنانيون كثيرون بحاجة للودريان حتى تصل إليهم رسالة “نهاية لبنان السياسي”؛ وكل ما فعله لودريان هو أنه وصف واقعاً موجوداً وقائماً ومُعاشاً في لبنان.

بداية إن “لبنان السياسي” الذي يتحدث عنه لودريان، هو عمر التجربة اللبنانية من عام ١٩٤٣ حتى سقوطها اليوم؛ بل البعض يقول – وهم محقون – أنه عمر تجربة لبنان منذ كان بلداً مُتخيلاً قبل استقلاله وقبل أن يصبح لبنان الكبير، حتى أصبح بلداً متجسداً داخل حدوده..

هذه التجربة اللبنانية غير المحدودة بنقطة بداية امتدحها كثيرون وانتقدها كثيرون؛ ولكن ظل لها معان خاصة ولافتة وذات فرادة؛ وأسباب ذلك يعود لكونها تجربة انطوت على عملية “بناء وطن” قال عنه مترنيخ حينما كان إسمه “لبنان الصغير” أو “لبنان المتخيل” أنه “مختبر لكل الشرق الأوسط” وأنه “بلد صغير بحجمه ولكنه كبير بدوره”؛ وقال عنه بابا الفاتيكان أنه “ليس مجرد بلد بل هو رسالة حضارية”؛ وطالب جمال عبد الناصر بأن يُحّيده العرب حتى يستفيدوا من ديموقراطيته المفقودة في الشرق؛ وقال عنه المسيحيون العرب الرواد بأنه نقيض الكيان الصهيوني؛ وقال عنه السفراء الأجانب الذين خدموا بلادهم فيه، أنه إذا أردت أن تعرف ماذا يحصل في جزر القمر عليك أن تعرف كيف ينعكس ذلك في لبنان؛ وقال عنه ميشال أبو جودة “إذا تكاثر الغيم في موسكو البلشفية يفتح اللبنانيون مظلاتهم في بيروت وفي بلدة كفر رمان الجنوبية”؛ وقال عنه الرئيس سليم الحص “أن فيه حرية كثيرة وليس ديموقراطية”؛ ووصف ميشال شيحا نظامه المصرفي بأنه مغامرة مبدعة لا يفهمها البنك الدولي وفقط يفهمها إبن الحضارة الفنيقية”؛ الخ..

كل هذه الأوصاف قيلت بوصف لبنان النظام السياسي؛ وواضح أن في هذه الأقوال حملت بمضامينها قدراً من التناقض بقدر ما فيها مزايا من الغنى؛ وحملت قدراً من المغامرة بقدر ما جاء فيها سياق من الواقعية…

 .. إلى ذلك فإن لبنان النظام السياسي الذي ينعيه اليوم لودريان ويفتقده منذ فترة اللبنانيون، هو لبنان مؤسسات الدولة التي كان بناها خلال ستينات القرن الماضي فؤاد شهاب، ومنذ ذاك الوقت تتالى سياسيون لبنان على نهبها أو تجويفها من وظائفها الوطنية ومن مهمتها الأساسية وهي الخدمة العامة وحماية أموال الدولة، لتصبح لاحقاً مستودعاً للخدمات الزبائنية الحزبية..

 .. “لبنان النظام السياسي” هو مؤسسات الدولة التي أصبحت إما مشلولة أو أنها تعتاش على صدقات دولية ما يجعلها مهددة بالإنهيار في أية لحظة يريد الخارج ذلك..

.. و”لبنان النظام السياسي” هو دور لبنان السياسي والثقافي والاقتصادي والعلمي، الخ.. وهو إلى كل ما تقدم، صيغة لبنان الديموقراطية التي تقوم على عملية تداول السلطة بسلاسة وهو انتظام عمل المرافق العامة والمؤسسات السيادية، بغض النظر عما يعلق بهذه العملية من عيوب أو نواقص.

.. و”نظام لبنان السياسي” المهدد بالزوال هو معنى لبنان داخل محيطه: التعايش الحضاري بين طوائفه الذي اعتبر لفترة طويلة أنه نقيض معنى وجود إسرائيل التي قامت على اضطهاد الآخر غير الصهيوني اليهودي.

و”نظام لبنان السياسي” هو الديموقراطية العربية داخل لبنان وليس فقط ديموقراطية اللبنانيين داخل بلدهم؛ ولبنان النظام السياسي هو ليس المستودع لفوضى النازحين من أزمات الفقر والحروب الأهلية؛ بل هو – كما كان لفترة طويلة – منتدى مفتوح لاستقبال العقول السياسية العربية النازحة من سجون الحياة السياسية العربية!!

.. و”نظام لبنان السياسي” هو اجتماعه المنفتح والمتنور الذي تغير الآن وتبدل واقعه من حال إلى حال؛ وهو نوعية كتابه السياسي الذي كان يقرأ به؛ وهو صحافته التي لم تعد تكتب للعرب ولا للعالم ولا حتى للداخل؛ هو طبقته السياسية التي كانت رجال دولة وتفكير متقدم، وصارت فئة من أصحاب الياقات البيضاء وأرياء الحرب؛ وهو مصارفه التي كانت محط ثقة كل الرأسمال العربي، وصارت اليوم مقبرة أموال الأثرياء العرب الذين وثقوا بدور لبنان كمصرف العرب!!.

لودريان لا يأتي بجديد حينما يقول لبنان سيبقى منه لبنان الجغرافي وليس لبنان السياسي؛ أي ذهبت الروح المعروفة بإسم التجربة اللبنانية وبقي الجسد المتوحش المعروف بإسم التجربة الميليشاوية التي ترتدي ياقة بيضاء..

Exit mobile version