الهديل

الانتداب الرقمي: الدكتور محي الدين الشحيمي

فيما يلي مقالة للكاتب د. محي الدين الشحيمي نشرها منذ خمس سنوات؛ وهي تتحدث عن وقائع استراتيجية حدثت لاحقاً.. نظراً لأهميتها نعيد نشرها:

ان السواد الأعظم من البشر في مكان آخر ومختلف تماما, هم مأخذون كليا باليوميات وتفاصيلها السطحية مبعدين وبشكل قسري عن الحقيقة, حيث تم اشغالهم أوالهائهم بالأحرى بأمور سيطرت عليهم وأثقلت كاهلهم وربطت على أنفسهم وهي لا تمت للحقيقة من الأحداث أبدا, هي حركات موروثة لا تعد ولا تحصى ومجموعة من المتراكمات المركونة بشكل فوضوي والمتكررة بشكل انها تبعدهم عن النواة الحقيقية واللب الحقيقي للاشكالية، متعبون بالمشاغل التقليدية لهموم العيش كالبطالة والصحة والديون والسياسة السطحية والحروب والعنتريات الاعلامية المضللة, حيث تخلق منهم القطيع التائه والمهجن والمبرمج بشكل المناسب لانجاح النموذج ولعدم افساد مخطط الاحترافيين.

هناك نظام عالمي جديد يطرق الأبواب, وقد سرعت الجائحة من وتيرته ومن خطواته قليلا وخلقت له البيئة الحاضنة والذرائع البنيوية وكل الاحتمالات الوافية لكي يتقدم, فبعيدا عن صدمة الجائحة وما نتج عنها من خسائر بشرية واقتصادية وحياتية فالمشروع ما زال مستمرا فهو كالمياه والتي تعرف طريقها.

سوف يسودنا نموذج جديد ومن أبرز ملامحه والتي تلوح حاليا في الأفق, من الشراكة الكاملة للانسان مع الآلة الى مكننة النقد والعملة والتداول اليومي بحيث أنه لا وجود للعملات الورقية في المستقبل والتي سوف تختفي وتحل محلها العملات الالكترونية والتداول التقني الصرف, فنحن في زمن التباعد الاجتماعي بالرغم من كثرة وسائل التواصل الاجتماعي وآلياته لكننا نقترب أكثر فأكثر من النزعة الفردية الغير الاجتماعية، وهناك بروز لعالم سوف يكون بدون كيانات سياسية فاعلة حيث الدولة فيه كالولاية ولا معني فيه للحدود الجغرافية.

سيكون هناك تخفيف كبيرعلى قيود التنقل تمهيدا للوصول الى مجتمع عالمي واحد والى النموذج الحقيقي للقرية الكونية والتي ستذوب فيها كل الانتماءات وتسيطر عليها نفس القيم, وهنا يقع لب المشكلة ومحورها حيث أن الحرب الواقعة هي لهدفين متناقضين فأما الاندماج والتماهي المطلق وهو صعب جدا وأما الانشطار الأعمق وهو أشد صعوبة, فالقيم الجديدة والترويج باتاحة فرص أكثر وحرية أكثر هو من حيث الشكل فقط أما الأمر المضمر في العمق فهو السيطرة الممنهجة على النموذج العالمي والانخفاض بمعدل وقيمة الخصوصية أي الدكتاتورية, تلك هي باختصار النسخة المهجنة وغير الحقيقية من العولمة تحت عنوان السيطرة الكونية. حيث يتقبل العالم واقتصاده بشكل دائم لنظرية القطب الواحد والمسيطر والمركز سواء كانت دولة او منطقة أو مدينة ففي الماضي كانت المدينة – الدولة واليوم هي العاصمة, فنسمع كثيرا اليوم بالعاصمة الاقتصادية حيث يتوزع الاقتصاد في العالم على دوائر متعددة فهناك المركز والمناطق الممتدة حولها ومن ثم هنالك المناطق الوسيطة وبالأخير لدينا الأطراف الواسعة جدا والتي بحكم النموذج تجد نفسها خاضعة وتابعة أكثر من أنها مشاركة.

نحن الآن في خضم تغيير نوعي دقيق ومقلق في وسط الصراعات وخضم الصدامات وعواصف الأزمات الاقتصادية الحادة, انه الجو الاقتصادي السيء وغير النظيف بالفعل والذي سوف ينذر بسقوط المركز العالمي الحالي بكامل هيكله الاقتصادي المؤسساتي والنقدي وهو المهدد في الأساس, والذي سوف يهلل في نفس الوقت ببروز وسطوع المركز الجديد, فكل أزمة مستجدة تشكل لنا اختبارا وامتحانا لا يجتازه سوى الأقوياء والحاضرين والمنتجين وينهار به الضعفاء والطفيليين والاستهلاكيين, ولا ينهار المركز عادة عند كل ضربة أو من ضربة واحدة, لكن نحن اليوم نعيش ومنذ عقد من الزمن أزمة عالمية يبدو أنها حادة جدا وشديدة الخطورة ومختلفة بحيث أصبحت تهدد المركز الحالي بشكل حقيقي وجدي.

فاذا ما سقط المركز العالمي الحالي والذي هو الى الأن أمر غير مستغرب بالرغم من نسبة توقعه المتدنية فسيحل حينها في العالم مركزا جديدا وسيكون آسيويا بالتحديد, لا شك بأن أمور خفية وغير طبيعية تحصل في الولايات المتحدة الأميركية ولكنها متوقعة فهنالك الفوضى والاحتجاجات والتحريض على العنف, ولا مناص من أنها موجهة بكل عناية وبمنهجية محصنة بالعفوية الظاهرة , فحينما يراد بالأحداث أن تنطلق لا بد من تشكيل مسرح لها ويجب عليه أن يكون جذاب ومحط للأنظار وسريع الانتشار وتستغل هنا نقاط الضعف لكي تكون المحرك المركزي والشرارة الأساسية للأحداث كما هو متعارف عليه وفي مختلف الدول, فلكل دولة نقطة ضعفها والتي تكون للأسف غير قابلة للشفاء منها رغم كل محاولات العلاج لها وتصبح بالتالي جرحها النازف , ففي أميركا يوجد الصراع العرقي (الأبيض الأسود) والذي نلاحظه حاليا, ولدينا في لبنان المشكلة المزمنة والمتمثلة بالطائفية وتبرز في أوروبا مسألة القوميات والصراع بين دول الشمال والجنوب والمعسكر الشرقي والغربي.

ان قراءتنا لمعطيات الواقع يجعلنا نضع السيناريوهات الحتمية لنتائج شبه مؤكدة حول الأحداث الكبرى, حيث تشهد الولايات المتحدة الأميركية حاليا أنواع مختلفة من التلاعبات وفي مجالات متعددة (السياسية والاقتصادية والاجتماعية والصحية وحتى العسكرية), هنالك توجيه لأمور جمة هي في الأصل على النقيض تمام لا بل وبشكل معاكس ومغاير اضافة الى الجهل المتعمد للثقافات والجنوح المفرط نحو المادية.

تواجه أميركا اعصارا وانقلابا على الذات ظاهره اجتماعي ولبه متشعب ومن الممكن أن تكون أميركا مسرحا لهزة أو عملية أمنية كبيرة, يستهدف فيها مركزا قوميا أو فيدراليا أو شخصية مرموقة وسيادية الى جانب الانهيار المالي والاقتصادي والمستمر بوتيرة تصاعدية مترافقا مع تعكر شديد عسكريا. فاذا ما صمدت الولايات المتحدة بحسب ما تشير الدلائل رغم صعوبة الأمر فسوف تخرج بشكل أقوى ولكن بنمط مختلف, بحيث لم تعد هي المركز الوحيد كالشمس في المجموعة الشمسية بل ستصبح واحدة من المراكز الأساسية في العالم وبمعنى أوضح ستكون أميركا كوكب مثل بقية الكواكب , مع امكانية الشراكة المتناغمة بين الطرفين الجديدين معتمدة في ذلك على معاناة الاقتصادات العالمية المنغمسة في نفس الأوضاع الصعبة.

لقد ساهمت ثورة المعلومات وتطور وسائل الاتصالات والمواصلات وسرعة تقديم الخدمات باختزال المسافات فيما بيننا, فانهارت الحدود وقصرت الطرق بين الدول ولم يعد للوقت قيمة ولا أهمية بوتيرة الزمن السريع,حتى بتنا نشعر أن العالم لم يعد الكرة الأرضية بل الطابة الأرضية ذات الحجم الأصغر , فلم يعد فضاء البشر كلاسيكي بل نوعي وقريب من التناغم والمساواة ولو ظاهريا , هم مندمجون رقميا وتقنيا بشكل موحد حيث طغت القيم الرقمية والسلوكيات التكنولوجية والأفكار السيليكونية على عالمنا, فالمبتكرون هم القلة والمستهلكين للابتكار هم الأغلبية وهو ساعد في تعميم الأفكار الابتكارية والتفاصيل الجديدة والانغماس الطارئ للعادات والتقاليد البرمجية من منطق التبعية الرقمية الابتكارية للبرمجيات , وكأننا في عصر جديد للانتداب وهو الانتداب الرقمي والابتكاري.

لقد حان دور الانتقام من النفط والبترول والانقلاب عليه, فالنظام الجديد هو الدخول في عصر الطاقات المتجددة من أوسع أبوابه، هو عصر التنمية المستدامة والسيارات الذاتية والآلات الكهربائية كل ذلك من أجل انقاذ الكوكب بعد تعذر واضمحلال كل الأماني في ايجاد كوكب بديل, انه عصر الشركات البشرية .

فعالمنا بات مفتوح على بعضه كخلية عصبية متكاملة لدرجة أنه اذا رفرفت فراشة صغيرة بجناحيها فوق سماء بكين في الصين سوف تحدث بطيرانها أثر يكون له تأثير كبير فوق سماء واشنطن في أميركا, وتلك هي بالعمق حقيقة المرحلة الخامسة للصراع والمنافسة أو ما يسمى بحروب الجيل الخامس حيث التناغم يزداد والتماهي يكتمل والصراع هو على من سيدير الدفة ويكون الحاكم والمقرر للمرحلة المقبلة .

لذلك سوف نشهد حركة شاملة من الاصلاحات من خلال أحداث هيئات عالمية جديدة اكثر تحكم في مصير البشرية, تستخدم بها التكنولوجيات الحديثة والذكاء الاصطناعي هي بالتالي هيئات ومنظمات أقوى من التي نعاصرها ونعرفها, ستصبح الشركات المتحكمة أقوى وسوف يقل عددها وستكون الرأسمالية أشرس ومتطرفة اكثر ويتناقص عدد مجلسها التنظيمي الاحتكاري, لذلك ليست المسألة في التشاؤم أو التفاؤل فالتكنولوجيا موجودة في الاصل, لكن الأمر يعتمد على الكيفية في اكتشافها وتطبيقها وعلى النطاق الذي نحتاجه بالرغم من مشاكلنا اليومية والتي يستوجب حلها وايجاد طريقة مناسبة لوضع أساس لابتكارات الغد واصلاحاته.

*د. محي الدين الشحيمي

استاذ في كلية باريس للأعمال والدراسات العليا

دكتوراه في القانون جامعة باريس اساس في فرنسا.

عضو لجنة التحكيم في مدرسة البوليتكنيك في باريس. 

محاضر في كلية باريس للاعمال والدراسات العليا واستاذ زائر في جامعات (باريس 2 _ اسطنبول _ فيينا).

خبير دستوري في المنظمة العربية للقانون الدستوري مستشار قانوني واستراتيجي للعديد من الشركات الاستشارية الكبرى والمؤسسات الحكومية الفرنسية. كاتب معتمد في مجلة اسواق العرب ومجلة البيان والاقتصاد والاعمال ومجلة الامن وموقع الكلمة اونلاين. رئيس الهيئة التحكيمية للدراسات في منصة الملف الاستراتيجي وخبير معتمد في القانون لدى فرانس 24.

Exit mobile version