الهديل

خاص الهديل: العالم الرقمي: بين طغيان التريند وفقدان الخصوصية

خاص الهديل…

قهرمان مصطفى…

في زمننا المعاصر، أصبحت الحدود بين العالم الطبيعي والعالم الافتراضي غير واضحة، مما أدى إلى تداخل متزايد بينهما. ففي ظل هذا التداخل، بات من الصعب التمييز بين الحياة العامة والخاصة، خاصةً لأولئك الذين يعتمدون على العالم الافتراضي كمصدر لكسب العيش وتحقيق الأرباح؛ حيث لم يعد التريند مجرد ظاهرة عابرة، بل أصبح جزءاً لا يتجزأ من حياتنا اليومية، تؤثر في مساراتها وتوجهاتها. من هنا، تتسلل أسماء ومصطلحات من العالم الافتراضي إلى حياتنا الواقعية، لتجد لها مكاناً في صفحات الحوادث وأروقة المحاكم، بعضها تجاوز الجرائم لتصل إلى النصب أو التشهير والقذف والسب. مما يبرز التحديات والمشكلات التي نواجهها في هذا العصر الرقمي المتسارع.

 

 

يكفي عزيزي القارئ أن تقوم بجولة عشوائية في عناوين الأخبار الخاصة ببشر افتراضيين دخلوا إلى العالم الواقعي من صفحات الحوادث لتعرف أن هناك مهناً ووظائف لم تكن موجودة وأصبحت تحتل مجالها وتفرض نفسها وتمثل نموذجاً يسعى بعض الطموحين للوصول إليه من هذه العناوين «براءة نجل يوتيوبر شهير من التعدي على بلوجر.. الحكم على بلوجر بتهمة الاعتداء على يوتيوبر.. بلوجر تقاضى فيسبوك.. يوتيوبر يشكو جاره بسبب اتهامه بالاعتداء عليه، يوتيوبر تشكو زوجها وتتهمه بتسريب فيديو خاص.. تيكتوكر شهير يدّعي على فنان مشهور.. الخ» هذه مجرد عينات، تحمل مهنا أصبحت جزءا من الواقع، وقد لا تعنى شيئا للمواطن العادى.

 

 

وليست المرة الأولى أو الأخيرة، أن تصبح الكاميرا فاعلا في الأحداث، وأن يثير نشر فيديو أو صورة جدلاً ويتسبب في مشكلات وقضايا، بسبب غياب الفصل بين الخاص والعام، ومساحة الحرية المتاحة للفرد خارج حدود منزله، وحتى داخله، ولا قيمة للموت أو العشرة في ظل غريزة الشهرة والتشهير، تفاصيل حياة الأزواج والزوجات، وخصوصيات العلاقات الأسرية، وقد تبلغ الرغبة فى الانتقام مداها، مثلما حدث مع بلوجر سرب فيديو لزوجته السابقة إلى اليوتيوب وتسبب في فضحها، لنرى الانتقام بكل ما يحمله من قسوة وكراهية، كل هذا وأكثر أصبح معروضاً أمام الناس في الداخل والخارج، وبعض من يذهبون إلى الانتقام لا يحسبون تأثير هذا على الشخص والمجتمع وحتى من يتورط في سلوكيات خاطئة، تحت دافع الشهرة أو النجومية، يجد «سكرين شوت» فى انتظاره، أو فيديو تم التقاطه خلسة سيفاً مسلطاً عليه.

 

 

ونحن هنا نتحدث عن الجرائم والأخطاء والسلوكيات العادية، وليس عما يمكن أن يفعله الذكاء الاصطناعي من خطوات إضافية تعيد تقديم العالم، وهنا نحن في عصر تصبح فيه التكنولوجيا ليس فقط سلاحا ذا حدين، لكنها سلاح يمكن أن يدمر أفراداً وأسراً.

 

 

وهو ما يجعل النقاش متجاوزاً للخصوصية والحدود الفاصلة بين العام والخاص فيما يتعلق بحياة الآخرين، وأيضاً بتفاصيل حياة الأسرة ذاتها، حيث يمكن أن يصبح أي احتفال أو فرح أو رحلة، مناسبة للنشر والعرض والقتل المعنوي، ومع الوقت يفقد الجمهور اندهاشه، ويطلب المزيد، والجمهور هنا ليس الجميع، لكنه العدد الكافي لصناعة التريند، وهو الفاعل أو الجمهور الذى يغذى النميمة ورغبات الانتقام والقتل والتشهير، مع أنه نفسه أو جزء منه يرفض ويستنكر وهو يمارس اللعبة والفرجة والشير، لدرجة أنه لم يعد مثيرا للغضب أو الدهشة أن يستعرض شاب على حسابه بتيك توك مقاطع من احتضار والده وموته حتى وصوله للمقابر، والتباهي بهذا وبنسب المشاهدة ودعوات الجمهور، بل وحتى شتائم واستنكار البعض أصبحت تصب فى نسب المشاهدة، المهم أن يرى العائد، ولا فرق بين قصة موت الأب، أو زواج وطلاق، تجعل الأسرة كلها تريند وموضوعاً للاستعراض والاستهلاك الافتراضي والطبيعي، وصولاً إلى صفحات الحوادث.

 

 

فى الماضي كان الاتهام يتوجه للإعلام، أنه وراء البحث عن النميمة والفضائح، الآن أصبح أطراف العلاقة هم من يقدمون المادة الخصبة للنميمة، ويحرصون على «الفضيحة» من أجل الربح، والتشهير من أجل الشهرة.

 

 

ختاماً؛ وفي خضم هذا العصر الرقمي، الذي لا يعترف بالحدود بين العام والخاص، وبين الحقيقي والافتراضي، نجد أنفسنا أمام تحديات كبيرة تتعلق بخصوصيتنا وأخلاقياتنا وسلامتنا النفسية والاجتماعية. التقنية الحديثة، وعلى رأسها الذكاء الاصطناعي، لا تزال تقدم لنا إمكانيات غير محدودة، ولكنها تحمل في طياتها مخاطر جمة. إن مسؤوليتنا تتطلب منا أن نكون أكثر وعياً وحذراً في تعاملنا مع هذه التكنولوجيا، وأن نسعى جاهدين للحفاظ على قيمنا وأخلاقياتنا في مواجهة طغيان التريند والسعي وراء الشهرة السريعة. فلنتذكر أن التكنولوجيا، مهما كانت متقدمة، لا يمكن أن تحل محل القيم الإنسانية والأخلاق التي يجب أن تبقى ركيزة أساسية في حياتنا.

Exit mobile version