خاص الهديل….
بقلم: ناصر شرارة
رغم أن تنحي بايدن عن الاستمرار بالترشح لولاية رئاسية ثانية لم يكن قراراً مفاجئاً، لكنه كان قراراً تاريخياً غير مسبوق، وسوف يترك نتائج غير متوقعة.
من هذه النتائج إحداث صدمة داخل الحزب الديموقراطي، وذلك على مستوى الإرباك الذي سيخلفه طرح سؤال “لماذا تم إعلان التنحي الآن”؛ علماً أن حالة بايدن الصحية كانت مقرؤة منذ فترة غير قصيرة؛ ولم يحدث له وضع صحي دراماتيكي مفاجئ؟؟..؛ كلام آخر سيثار داخل الحزب الديموقراطي أسئلة عن شفافية الممارسة الديموقراطية من قبل أفراد المطبخ المشرف على إعداد إسم ممثل الحزب الديموقراطي في معركة الرئاسة؟؟: هل سيتم رمي تصويت المندوبين الذين اقترعوا لصالح ترشيح بايدن في سلة المهملات، وتجيرهم لصالح كاملا هاريس فقط لأن الأخيرة هي الوحيدة – بعد بايدن – التي يمكنها إجرائياً الاحتفاظ بأموال المانحين لحملة الحزب الديموقراطي الانتخابية.. واستطراداً هل أموال المانحين هي التي تقرر من يكون مرشح الحزب الديموقراطي للرئاسة؛ أم أن أصوات مندوبي الحزب هي من تقرر من يكون مرشح الحزب للرئاسة؛ وهي من تقرر بأي اتجاه ستصرف أموال المانحين؟؟!
خلال الاشهر الماضية تعرض الحزب الديموقراطي لهزة داخلية حول موضوع آخر؛ وهو موقف الشق التقدمي فيه والجيل الجديد بداخله من دعم إسرائيل الأعمى في حرب غزة. لقد رفض طلاب الجامعات الديموقراطيون الأميركيون – وبينهم طلاب يهود أميركيون – دعم بايدن لحرب إبادة غزة؛ وبيّن هذا الرفض وجود حالة من الانفصام بين الأجيال داخل الحزب الديموقراطي؛ وتم التعبير عن حالة الانفصام هذه من خلال بروز شريحة شبابية وتقدمية داخل الحزب تتجه للتصويت العقابي لبايدن اعتراضاً على موقفه الداعم لحرب إبادة غزة.
والواقع أن حالة اعتراض جيل الشباب على موقف القيادة العجوزة من دعمها الأعمى لإسرائيل؛ وحالة الاعتراض المرتقبة حالياً الناتجة عن سؤال لماذا الآن تم إعلان تنحي بايدن؛ يثيران إشكالية مهمة يعاني منها الحزب الديموقراطي في لحظة توجهه للانتخابات الرئاسية؛ ومفاد هذه الإشكالية هي وجود بيئة واسعة داخل الحزب تعتبر أن مشكلتها اليوم ليس مع منافسة ترامب لبايدن أو لكاملا هاريس؛ بل مشكلتها مع ما تراه من أن الوقت حان لإصلاح الحزب؛ وأن مهمة إصلاح الحزب لها أولوية على مهمة فوز الحزب بانتخابات الرئاسة الراهنة؟.. وبنظر هذه البيئات فإن كرسي الرئاسة في البيت الأبيض تنتظر أربع سنوات في حال خسرها الحزب الديموقراطي اليوم؛ ولكن مهمة إصلاح الحزب لا تنتظر سنة واحدة.. فهي مهمة ملحة.
صحيح أن صوت البيئات الديموقراطية المطالبة بإصلاح الحزب لا يزال خافتاً؛ ولكن حالة التململ الموجودة داخل الحزب على خلفية الانقسام في الرؤية بين أجياله؛ يمكن لحظها وقراءتها داخل المسار الذي شهده الحزب الديموقراطي منذ حراك طلاب الجامعات الأميركية قبل أشهر، حتى حركة الاعتراض المتوقعة الآن داخل الحزب بوجه عدم الشفافية الديموقراطية التي أخذت تعبيرها في طريقة إعلان بايدن تنحيه.
والواقع الراهن للحزب الديموقراطي يقول ان الحزب في أزمة؛ ولكن الأهم هو أنه ليس هناك وجهة نظر واحدة داخل الحزب لقراءة مضمون هذه الأزمة: القسم التقليدي داخل الحزب يرى أن أزمته تتعلق بصحة بايدن بمقابل حيوية ترامب؛ القسم المتشكل من الأجيال الجديدة داخل الحزب يرى أن الأزمة أبعد من فشل تصميم الحملة الانتخابية الرئاسية ومن كبر سن بايدن؛ بل سببها أن الوقت حان للتغيير الإصلاحي داخل الحزب؛ بمعنى آخر بجب تبديل المسار بخصوص عناوين مختلفة من بينها عنوان تصحيح الموقف من الشعب الفلسطيني وقضية آخر احتلال في العالم.
هناك جدل بخصوص أن الناخب الأميركي يعطي أولوية للوضع الاقتصادي وليس للقضايا الخارجية أو للدفاع عن قيم التحرر في العالم؛ ولذلك لا يمكن الرهان على أن حركة الطلاب والتقدميين ستؤدي إلى انقلاب داخل الحزب لمصلحة جعل القضية الفلسطينية أولوية داخله.. وهذا التوصيف صحيح بشكل جزئي، خاصة إذا لاحظنا ان البيئات الطلابية التي قادت حركة الطلاب كانت من أبناء العائلات الميسورة التي ليس لديها هم اقتصادي بل هم على صلة بالمثل المبدئية وبتصحيح القناعات الزائفة وعلى رأسها سردية الحركة الصهيونية حول فلسطين.
خلاصة القول ان الحزب الديموقراطي في أزمة؛ والسبب ليس فقط التعثر في تصميم حملته الانتخابية الرئاسية؛ بل وراء هذا العنوان يوجد تسونامي من الرغبة بالتغيير يقوده الجيل الجديد داخل الحزب؛ وهذا الجيل يمتاز بثلاث سمات لا تزال في طور التفاعل والاعتمال:
السمة الأولى هو التباين بين ذاكرتهم السياسية وذاكرة الجيل القديم؛ فبايدن وأترابه من قياديي الحزب مثلاً، هم أبناء “الحرب الباردة”، فيما الجيل الجديد من الديموقراطيين لا تعنيه ذكريات هذه الحرب؛ وبايدن مثلاً يؤمن بالصهيونية كقيمة أخلاقية ومصلحية لأميركا؛ بينما الجيل الجديد من أبناء الحزب – ومن بينهم يهود اميركيين – لا تعنيهم الفكرة الصهيونية، بل يتهمونها بأنها فاشية.
السمة الثانية بأن الجيل الجديد يقوم بالتدقيق بمدى انسجام المبادئ التي تدعو للعدالة في الداخل مع سياسات واشنطن الخارجية.. فهذا الجيل يستشعر بقلق من أن القيادة الاميركية التي تمارس التسلط خارج حدودها ضد شعوب العالم؛ ستصل لوقت تمارس نفس هذا التسلط على الشعب الأميركي داخل الولايات المتحدة الأميركية؛ كون الحرية هي مفهوم شامل لا يتجزأ؛ وحينما تكون قيادة أميركا ظالمة خارج حدودها؛ فهي لن تكون عادلة داخل حدودها..
السمة الثالثة وهي نتاج للسمتين السابقتين.. ومفاد هذا النتاج هو أن الجيل الجديد داخل الحزب الديموقراطي يؤشر إلى احتمال ولادة بنية اجتماعية تاريخية تقوم بمهمة إعادة أميركا لمرحلة المبادئ التي يرمز إليها تمثال الحرية الذي كان لفترة ما بشر بأهداف القارة الجديدة..
.. الولايات المتحدة الاميركية موجودة داخل مخاض داخلي؛ وما يحدث داخل الحزب الديموقراطي يعبر بشكل رمزي عن هذا المخاض؛ وواقع الحال الراهن يقول ان الأمور على هذا المستوى، لا تزال غير مقرؤة؛ ولكنها محسوسة وتتفاعل بإتجاه ان تصبح منظورة..