خاص الهديل….
بقلم: ناصر شرارة
كما في أوكرانيا كذلك في غزة؛ فإن حربيهما تتجهان لتصبحا مرضاً عالمياً مزمناً ليس له حل لا دولي ولا إقليمي. والعالم يوماً بعد يوم، يتجه لأن يتعايش مع فكرة استمرار هاتين الحربين مشتعلتين في قلب أوروبا وقلب الشرق الأوسط.
.. غير أن حرب أوكرانيا لا تزال تحت الضبط لحد غير قليل؛ بمعنى أن الأوروبيين متورطين فيها سياسياً ولوجستياً (أي تسليح أوكرانيا)؛ ولكن غير مشتركين فيها عسكرياً بشكل مباشر؛ وهذا يعني أن حرب أوكرانيا تقف عند حدود أنها أزمة أوروبية ولا يسمح لها حتى الآن أن تتجاوز حد تحولها لحرب أوروبية؛ أما حرب غزة فهي ساعة بعد ساعة تتوسع لتتفلت من كونها مجرد أزمة كبيرة في الشرق الأوسط، لتصبح “حرب الشرق الأوسط الكبرى” التي لو اندلعت فإنها ستستدرج العالم، وبمقدمه الولايات المتحدة الأميركية، إلى أتون حرب صليبية جديدة ستجري تحت شعار “دفاع الغرب بمفعول رجعي عن إسرائيل”.
كل المشكلة في العام ٢٠٢٤ تتعلق بأن الزمن السياسي والجيوسياسي والاقتصادي والعسكري يبدو أشبه بقطار يسير بسرعة تفوق سرعة الصوت؛ ولكن ما يحدث هو أن سائقه قرر فجأة أن يتوقف وأن يغير مسار القطار نحو الوراء وبنفس السرعة بدل أن يستمر بقيادة قطار الزمن السريع إلى الأمام..
.. السائق هنا هو بايدن؛ وقطار الزمن السريع الذي أدار محركاته نحو الماضي – الخلف، بدل أن يستمر بالاتجاه إلى الأمام – المستقبل؛ هو تجسيدات حربي أوكرانيا وغزة.
ثلاثة أرباع خلفيات الحرب في أوكرانيا تقوم على فكرة عربها – أو افتعلها – عالمياً الرئيس الأميركي بايدن؛ ومفادها أنه يتوجب على “العالم الحر” الدفاع عن “أوروبا الحرة” بوجه طموحات “فلاديمير بوتين الإمبراطورية” التي تشبه من حيث “شهيتها العدائية” ضد أوروبا طموحات هتلر!!
.. وكل خلفيات استمرار حرب غزة تكمن في أن بايدن يعتقد أنه يجب السماح لليهودي الصهيوني أن “يجن ويقتل ويدمر”؛ ليس انتقاماً من هجوم حماس يوم ٧ أكتوبر؛ بل بالأساس لكون اليهودي والمسيحي الصهيوني تذكر بمناسبة هجوم ٧ أكتوبر ٢٠٢٣، الهولوكوست التي حدثت قبل أكثر من مئة عام.
ربما كان بايدن هو آخر شخصية تنتمي إلى الطبقة السياسية الأميركية وحتى العالمية التي لا تزال ذاكرتها عالقة في صمغ شؤون الحرب العالمية الثانية وشجونها وتوازناتها وعِبرها الإقتصادية والجيوسياسية والعسكرية؛ ذلك أن نسبة ٧٠ إلى ٨٠ بالمئة من الأميركيين – ومن سكان العالم – فقدوا الصلة بذكريات الحرب العالمية الثانية وحتى بذكريات الحرب الباردة؛ وهم – كما يقول المثل اللبناني – أصبحوا “اولاد اليوم”؛ أي أن ما يهمهم ليس الشبه القائم بحسب بايدن بين بوتين وهتلر، وليس الرغبة بإمكانية أن يكرر الغرب حرب العلمين وإنزال النورماندي ضد بوتين هذه المرة؛ وليس غسل يدي أوروبا من دم المسألة اليهودية عبر السماح للصهيوني اليهودي بقتل الفلسطيني العربي، الخ.. فالجيل الأميركي الجديد – وأجيال العالم الجديدة – ينظر للحظة ولمستقبله انطلاقاً من مفاهيم جديدة أول السطر فيها الأمس المتصل القريب، وليس الماضي المنفصل عن الواقع الجديد، وهذا الجيل الأميركي الجديد يعبر عن مفاهيمه الجديدة بأدوات جديدة تتمثل بأبجدية التواصل الاجتماعي التي حلت مكان “الصحف الثقيلة الوزن” و”القنوات التلفزيونية التي يرتدي مقدمي الأخبار فيها العروات الأنيقة وأغلى أنواع الثياب”.
والواقع أن مشكلة استمرار حرب أوكرانيا في بعض جوانب خلفياتها الأساسية لها صلة بوجود ذاكرة قديمة لا تزال تقود اللحظة الجديدة؛ ولعل بايدن أبرز نموذج عن هذه الذاكرة..
.. وفيما بايدن يعاني صحياً من فقدان قوته الإدراكية ذات الصلة بعدم القدرة على استيعاب ما يحدث حوله اليوم؛ فهو بالتوازي يعاني من انتعاش مرضي لذاكرته الماضوية ذات الصلة بمشاكل الأمس البعيد؛ وكل هذه السمات جعلت بايدن يقود أميركا – ومعها العالم – من الخلف وإلى الخلف.. وهذا ما يحدث اليوم في أوكرانيا التي يضعها بايدن على صفيح ذكريات حرب الغرب ضد هتلر؛ وهذا ما يحدث اليوم في غزة التي يضعها بايدن على صفيح الهولوكوست الغابرة.
وضمن سياق سياسة تعطل إدراك الواقع الجديد التي توجه مواقف بايدن من حربي غزة وأوكرانيا، صدر أمس أغرب تصريح عن وزير الخارجية الأميركية قال فيه تعقيباً على اغتيال اسماعيل هنية “ان إدارة بايدن لم تكن تعلم”!!. ويريد بلينكن القول إن إدارة بايدن لا تريد أن تعلم باغتيال اسماعيل هنية في طهران؛ لأنها عالقة بصمغ ذاكرة العلاقة المفتعلة بين ما حدث في الهولوكوست قبل أكثر من مئة عام وما حدث في ٧ أكتوبر العام ٢٠٢٣!!