خاص الهديل….
بقلم: ناصر شرارة
لم تتبن إسرائيل عملية تفجيرات البيجر التي نفذتها أمس فوق مساحة واسعة من لبنان وسورية؛ تماماً كما أنها لم تتبن عملية اغتيال رئيس حركة حماس اسماعيل هنية التي نفذتها في طهران.. وفي كلتي العمليتين – وخاصة في الأخيرة (البيجر) – تريد إسرائيل من وراء عدم التبني وضع أقوى حالة من الإثارة على ما فعلته؛ بحيث يتناوب الخبراء ومختصو الحرب السيبرانية على التكهن حول حقيقة ما حدث وإيصال الأمر بالنهاية لتصوير عملية تفجيرات البيجر على أنها قطعة من فيلم هيوليودي؛ والغاية الأساسية من ذلك استعادة صورة الردع الاستخباري الإسرائيلي الذي خسرته يوم ٧ أكتوبر ٢٠٢٣.
هناك جانب آخر أساسي يقف وراء هذه العملية التي أدت في دقائق قليلة لإصابة آلالاف من العناصر والمدنيين من حاملي أجهزة البيجر العائدة لحزب الله، وهو يتعلق بأن المستوين السياسي والأمني في إسرائيل المدانين بالتقصير بالتصدي لعملية حماس يوم ٧ أكتوبر التي أدت لمقتل وأسر آلاف الإسرائيليين؛ باتا يستطيعان الإدعاء انه بمقابل إخفاق إسرائيل بإزاء عملية ٧ أكتوبر ٢٠٢٣؛ سجلت إسرائيل النجاح بعملية من ذات الحجم والوزن ضد حزب الله يوم ١٧ أيلول ٢٠٢٤.
لو أن نتنياهو كان يريد البحث عن حدث يناسبه للنزول عن شجرة حرب غزة؛ كان يمكنه جعل عملية ١٧ أيلول هو هذا الحدث؛ ولكن نتنياهو لا يبحث عن النزول عن الشجرة بل يبحث عن الاستمرار بالحرب لتحقيق أهداف أبعد من البحث عن تسويات داخل فلسطين التاريخية أو داخل الأفق الإقليمي.
ليس هنا مجال بحث حقيقة أهداف نتنياهو، ولكن ما يجب النظر بجدية إليه هو أن عملية تفجير البيجر حدثت بعد ساعات من زيارة هوكشتاين إلى إسرائيل والتي لم يكن لها تتمة في لبنان؛ والتي سمع خلالها هوكشتاين من المسؤولين الإسرائيليين رغبتهم بالتصعيد العسكري ضد حزب الله ولبنان.
وعليه يمكن اعتبار عملية تفجيرات البيجر هي النتائج الاستراتيجية لزيارة هوكشتاين الأخيرة لإسرائيل والتي لم تشمل لبنان ولم يحاول خلالها هوكشتاين ولو إجراء اتصال هاتفي من حيث هو مع بيروت.
يوم الأحد المقبل يتوقع وصول وزير الدفاع الأميركي أوستن إلى تل أبيب؛ وعنوان الزيارة كما سربته وسائل الإعلام هو احتواء التوتر؛ ولكن ما يلاحظ أن إدارة بايدن لم تعد تسعى لاحتواء التوتر بين إسرائيل وحزب الله بل تحاول أن تكرر مع رغبة إسرائيل بتوسعة التصعيد مع لبنان نفس الأسلوب الديماغوجي الذي استعملته مع رغبة نتنياهو بالدخول إلى رفح.. خلال تلك المرحلة قالت إدارة بايدن “نعم” لفكرة احتلال إسرائيل لرفح؛ وما حصل في النهاية هو أن نتنياهو دخل رفح وغطى عملياً وليس لفظياً بايدن دخوله الإجرامي لرفح..
نفس سيناريو التغطية الأميركية غير المعلنة لعملية نتنياهو في رفح تتبعه إدارة بايدن حالياً مع عملية التصعيد الإسرائيلي ضد لبنان..
.. وإذا كان هناك غطاء ما أميركي لعملية التصعيد الإسرائيلي الكبير ضد حزب الله ولبنان؛ فإن السؤال الخطر والمرتقب والمُلح هو ماذا بعد يوم ١٧ أيلول ٢٠٢٤؟؟.
إن الواقعية تقتضي قياس الأمور بحجم التشابه الحاصل بينها؛ وانطلاقاً من هذا المبدأ يصبح ممكناً القول إن نفس السؤال الذي طرحته إسرائيل على نفسها بخصوص ماذا بعد يوم ٧ أكتوبر ٢٠٢٣؛ يجدر بحزب الله أن يطرحه على نفسه بعد يوم ١٧ أيلول ٢٠٢٤؟؟
ما حدث أمس بعد عملية تفجيرات البيجر هو أن حزب الله وضع أولويات لكيفية تعاطيه مع نتائج الاعتداء الكبير الذي تعرض له؛ فعمل بداية على احتواء خسائره الكبيرة؛ وبعد فترة ليست قصيرة نسبياً أصدر بياناً حمّل فيه إسرائيل مسؤولية العملية ووعد بالرد.
ومن مجمل سلوك حزب الله منذ اغتيال إسرائيل الشيخ صالح العاروري الرجل الثاني في حماس في الضاحية مروراً باغتيال السيد فؤاد شكر وصولاً لنوع من اغتيال نحو ٣٠٠٠ عنصر من حزب الله أمس؛ يتضح التالي:
بشكل أساسي يظهر واضحاً أن حزب الله لا يريد الانزلاق بحرب شاملة مع إسرائيل ومن ورائها مع أميركا وحلفائها الموجودين عسكرياً في بحار المنطقة منذ ٧ أكتوبر العام الماضي.
.. لكن استراتيجية الحزب هذه جعلت إسرائيل تتيقن من أن حارة حريك لن تنجر لحرب شاملة مهما حدث؛ وهذا اليقين شجع إسرائيل على رفع جرأتها الأمنية ضد حزب الله، بدليل نوعية أهداف العمليات النوعية التي قامت / وتقوم إسرائيل بضربها سواء في الضاحية أو في كل لبنان، وذلك المرة بعد المرة..
والواقع أن استمرار تحوط حزب الله في ردوده من أن تؤدي لاندلاع حرب شاملة، سيقود لتوقع خطير؛ وهو أن يرفع نتنياهو من سقف أهدافه ضد الحزب في لبنان إلى أقصى درجة ممكنة..
لا شك أن هذا الاستنتاج وصل الآن لحزب الله بعد عملية تفجيرات البيجر؛ ومع ذلك يتوقع ان تستمر حارة حريك بعدم تغيير نمطية استراتيجيتها في حرب غزة..
.. وهنا يجدر التوقف عند طريقة تفكير الحزب التي ترى أن أولوية أهدافها في هذه الحرب هي سياسية وتالياً عسكرية.. ويتمثل هدف حزب الله الذهبي بالصمود في الميدان السياسي الذي يسميه السيد حسن نصر الله بالاستمرار في إسناد غزة وعدم الخضوع للضغط العسكري الإسرائيلي وللمناورات الأميركية التي تريد فصل جبهة لبنان عن جبهة غزة.. أما الهدف الثاني والثالث وحتى المئة للحزب بعد الهدف السياسي الأول باستمرار معركة إسناد غزة؛ فهي الأهداف العسكرية؛ أي الرد بتوسعة الاشتباك مع إسرائيل وليس الوصول لحرب.
من وجهة نظر حزب الله فإن هذه الاستراتيجية تعبر عن الحفاظ على إبقاء أحصنة الأهداف أمام العربة؛ وترى هذه الاستراتيجية أن نقطة الضعف في الموقف الإسرائيلي هو أنه يضع عربة الأهداف العسكرية أمام أحصنة الأهداف السياسية. واقعاً يوجد هذا النوع من النقد لاستراتيجية نتنياهو لدى قيادات المؤسسة العسكرية الإسرائيلية الذين يقولون إن إنجازات العسكر التكتيكية تتآكل نتيجة أن نتنياهو لا يضع رؤية سياسية واضحة قابلة للتنفيذ تقودها!!
حزب الله يثابر على وضع الرؤية السياسية كهدف أول تأتي وراءه التكتيكات العسكرية.. وبموجب تطبيقات هذه الاستراتيجية فإنه طالما الحزب قادر على الثبات عند موقف أنه لا وقف للنار على الجبهة الشمالية قبل وقف النار على جبهة غزة؛ فإن هذا يعني أن المبادرة السياسية الاستراتيجية في المواجهة العسكرية الناشبة لا تزال بيد الحزب حتى لو نجح نتنياهو بتنفيذ عمليات أمنية كبيرة ونوعية في الضاحية وفي طهران ودمشق.. فالحرب يقاس النصر فيها بمقدار ما تقترب من تحقيق الهدف السياسي وليس بمقدار ما تقترب من إنجازات عسكرية لا يوجد حاصل سياسي لها..
ما تقدم يؤدي لخلاصة واضحة: نتنياهو يقاتل الحزب بوصفه ملاكماً من الوزن الثقيل؛ فيما الحزب يواجهه بوصفه قوة قادرة على الاحتفاظ بهدفها الاستراتيجي السياسي!؟؟.
ستظل حلبة الملاكمة مفتوحة على مشهد المواجهة، وذلك طالما ظل الملاكم الإسرائيلي يكتشف انه كلما نجح في تسديد لكمة كلما أدى ذلك إلى استنفاد جزء من قوة عضلاته.. الجميع ينتظر نتنياهو حتى يتعب من تسديد اللكمات، ويصبح ثقل جسمه أقوى من عضلاته على حمله..